عادي

سعد جمعة.. شاعر أكله الحب

00:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
5

يوسف أبولوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

نجا من النار في طفولته، ولم ينجُ من الحب في شبابه، وفي حين أكلته النار من بطنه، فقد أكله الحب من قلبه، ومن قلبه ومن عينيه يكتب الشعر، وقبل الشعر يعيش الحياة كلّها لكي يؤكد صدقية ما يكتبه من شعر أشبه بتدوين يومي للقلب، أو أن شعره شهادة ولادة للأشياء والكائنات، إنه شعر الإنسان في أقصى درجات ابتهاجه بالدنيا وما فيها..

اخترت في هذه الصورة القلمية لرسم خطوط وظلال سعد جمعة (1964 رأس الخيمة) أن أبدأ به شاعراً، ثم صحفياً، ثم إنساناً، وهو كذلك، فما أحسبه يوماً تاجراً حاذقاً في إدارة الصفقات وانتهاز فرص السوق، ولا أحسبه يقوى على وظيفة في بنك، كما لا يمكن له أن يكون جنرالاً في أيّ حال من الأحوال على الرغم من أنه يمتلك جسد جنرال لولا تلك النار التي أكلت بطنه في طفولته، فأصبح لا يستطيع أو لا يقبل الانحناء إلا للوردة أو البحر.

نشأ في كنف عائلة هادئة جميلة – الأب وطني متعلّم وحرّ، علّم أبناءه وبناته عزة النفس والروح الأبدية في القراءة والكتابة، ومن والده أخذ شيئاً من شعرية ذلك الرجل الذي فيه شيء من تربية البحر:.. رجل مبادئ أحياناً، ولكن إذا اقترب أحد من ثوابته الثقافية والفكرية كان يتحوّل إلى موج لا يرحم الصخر، وفي سعد جمعة شيء من البحر أيضاً. بحر جلفار. بحر أصدقائه وأقرانه وربعه: عبد العزيز جاسم، علي أبو الريش، محمود يوسف، ثاني السويدي، وغيرهم من ذلك الصف «الخيماوي» – نسبة إلى رأس الخيمة – الذي أعطى الشعرية الإماراتية روحاً إبداعية حرّة ومفتوحة على الشمس والظلال، تماماً مثل المكان الذي وُلد فيه عشاق الماء والجبال هؤلاء.

حجرات القلب

في سعد جمعة أيضاً شيء من أمه. كانت أمّه امرأة في صورة قصيدة، أوصته بأن لا تسقط دموعه أبداً أمام سيّئ أو لئيم، وهو أضاف إلى الوصية الأمومية نزوعه الحيوي إلى الضحك. الضحك من الحياة وعلى الحياة، فلا شيء يستأهل دمعة واحدة تسقط على كم ثوب.

الضحك جزء من يوميات سعد جمعة، ولكنه ليس الضحك الضحل السخيف. إن في قلب ضحكه شيئاً من اللغة وأحياناً شيئاً من السخرية، ولكن حتى السخرية لا مكان لها في قلب سعد جمعة. القلب الذي تسكن فيه عائلته دائماً. عائلته في الحجرات الأربع في قلبه الذي لا ينجو أبداً من الحب.

بعد السكيك، والجري في صباحات وعصاري رأس الخيمة في فرجان شعبية حميمة مسكونة بالعائلات والناس الطيبين، بعضهم بحّارة يعرفون سر البحر، وبعضهم مزارعون يعرفون سر السدرة والنخلة والغافة، وبعضهم رجال رؤوس جبال يعرفون قصّ الأثر حتى على الحجارة.. بعد هذه الطفولة المكتظة بالصور والألوان والروائح والتشكيلات الروحية والنفسية ينتقل بعد جمعة إلى خياره الذاتي التلقائي الوحيد، وهو العمل الصحفي، فيلتحق بجريدة الاتحاد منذ العام 1985، وهو في خياره المهني والأخلاقي هذا حتى الآن، عمل في أقسام عدة وتشرّب المهنة واحترم طبيعتها وتاريخها وأخلاقياتها.

عمل في القسم الاقتصادي، وفي الثقافي، وفي المنوعات وفي التحقيقات، والمراسلين، وفي أقسام مهنية أخرى جعلت منه حرفياً ودقيقاً في رحاب صاحبة الجلالة التي لم تأخذ من شعريته ومن قصيدته التي كتبها ويكتبها دائماً وأبداً بلا استعراض وبلا تبجحات غرورية باذخة. بل هو أقرب إلى كتابة شعره في الليل بل في آخر الليل كمجاز على أنه يكتب كما لو أنه لا يسمع، ولا يُرى ولا يُلمس وهو في خلوته الشعرية دائماً من دون أن يجعل من هذه الخلوة امتيازاً على البشر وعلى الحياة، لا بل إن الحياة، والعائلة والأصدقاء أولاً، ثم ثانياً يأتي الشعر من دون خدش لكرامة الشعر.

بدأ سعد جمعة بمجموعة شعرية أعطاها اسماً له دلالته ومعناه بالنسبة إليه.. هو: «الراقص» وقد صدر في بيروت بهدوء وبلا ضجّة كعادة هذا الراقص، الذي يحترم جسده وإيقاع جسده، ومرة ثانية، فإن «الرقص» هنا - هو مفهوم وحالة – فكرية ولحظة حياتية عميقة وليس هزّ وسط وهزّ أرداف. إن قبساً من روح فلسفية في مفهوم الرقص هذا، فكل كائن حيّ يهتز ويتحرك كما لو أنه يرقص حين يقع كله في الطرب وفي الشغف وفي الوجد الروحي الذي يفيض بمكنون الذات، ويحولها إلى كيمياء رائعة.

ثم توالت مجموعاته الشعرية:.. «دون مرآة ولا قفص 2006»، «سراط نقيّ قربك 2008» وإلى الآن على ذمة الشعر، مرة ثانية، من دون تفلسف، ومن دون «السباحة في شبر ماء» كما يقولون كناية عن أولئك الذين يجعلون من «الحبّة قبة» في الشعر، ويعتقدون أن الشعر أثمن من الحياة، والحقيقة هي العكس، فالشعر أصلاً موجود في الرقص. في الوردة. في المرأة. في الموسيقى. في السفر. في الحب. في الندم. في الخوف.. وإلى آخره، وهذه كلها معاً هي مربع من مربعات الحياة، ويعرف سعد جمعة هذه المربعات جيداً، ويعرف أنها مجرد صناديق، وهو كشاعر، عليه أن يفتح هذه الصناديق، ويطلق كل ما فيها نحو «الرقص».

تكريم

في العام 2011 استحق سعد جمعة جائزة تريم عمران في حقل العمود الصحفي، وهنا، تجدر الإشارة في هذه الصورة إلى نثر سعد جمعة المركز حول هاجسه الشعري والوجودي..

هذا الهاجس، مرة ثانية وثالثة ورابعة، هو: «الحياة».. وثقافة الحياة بلا غطرسة، وبلا عنف، وبلا إقصاء لثقافات العالم. فكل شاعر جميل، هو شاعر الإنسانية، وسعد جمعة ابن من أبناء هذه الإنسانية – الهادئة النبيلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p5ne359

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"