عادي

ناصر الظاهري.. الكتابة برمش العين

23:18 مساء
قراءة 5 دقائق
1

يوسف أبولوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

محظوظ كاتب مثل ناصر الظاهري إذ يولد في مدينة العين، أو في مدينة تشبه العين، وإذا كان لكل امرئ من اسمه نصيب، كما يقولون، فالعين اسم على مسمّى. إنها مثل عين الشمس، وهي عين المكان؛ أي قلبه ومركزه، وهي عين التعيين. المدينة المُعَرَّفة بالزرع والخضرة والعائلات الأصيلة الكريمة، وهو كما لو يكتب برمش العين، وسوف يولد ناصر الظاهري في هذه البيئة ذات المكانية الشعرية، وهو إن لم يكتب الشعر إلا أنه شاعر في طريقة حياته، وفي صورته الشخصية وفي كتاباته، وفي أسفاره، وفي شغفه بالسينما، وشغفه بالصحافة، وأخيراً ستكون القصة القصيرة مربط فرسه.

نشأ ناصر الظاهري (مواليد 1960)، في عائلة عمودها الفقري عسكري من حيث الوظيفة والواجب الوطني، لكن ثقافته متعددة الوجوه والصور، ولذلك عندما اختار ناصر دراسة السينما والأدب الفرنسي لم يعارض الأب هذه الرغبة الثقافية عند ولده الذي بدأت تظهر على ملامحه ملامح أخرى هي ملامح الفنان والكاتب، والشغوف بالصور والألوان، وهي بالتأكيد، صور وألوان مستعارة من العين، وسوف يطير ناصر الظاهري إلى مدن وبلدان وقارّات بالمئات، ولكنه سيظل مشدوداً إلى «عينه». العين المدينة والمكان والجغرافية والتاريخ، و«العين» البشرية. عينه التي سترى جغرافيات ومدناً وشعوباً بعدد شعر رأسه، كتعبير مجازي يحيل إلى الكثرة، وكثيراً ما سيكتب وأولاً، كانت القصة القصيرة.

جيل

إذا قرأت أدب القصة القصيرة في الإمارات في ثمانينات القرن العشرين، فلا بدّ أن تضع في مختبرك النقدي أسماء عدة ناصر الظاهري واحد منها كجيل وكعلامة وكحالة إبداعية قصصية: سلمى مطر سيف، ومريم جمعة فرج، وعبدالحميد أحمد، وناصر جبران، وإبراهيم مبارك.. هذه الأسماء أساسية في بنية فن القصيرة في الإمارات في ثمانينات القرن العشرين، وهي معاً تشكّل بالفعل ظاهرة قصصية محلية استحقت آنذاك قراءات نقدية منهجية من جانب نقاد عرب مشهود لهم بالخبرة والتحليل الأدبي المتمكن من النصّ: سعيد السريحي، وعبدالله الغذامي، وبدر عبدالملك، ونجيب العوفي، ويمنى العيد، ومحمد جمال باروت، وعبدالله خليفة، وبول شاوول، ويوسف الشاروني، وفاضل ثامر وغيرهم.

هذه النخب النقدية العربية من مصر والعراق ولبنان، والسعودية والبحرين، قرأت الظاهرة القصصية الإماراتية في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، وقد كانت الأسماء القصصية الإماراتية التي ذكرتها قبل قليل محظوظة بهذه القراءات العربية النقدية التي جاءت في إطار ندوات ومهرجانات متخصصة، كان ينظمها آنذاك اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، ومع الأسف، لم نعد نشهد تظاهرات نقدية عربية كتلك، تقرأ الأدب الإماراتي في مثل ذلك الاتساع والتخصصية والمهنية النقدية.

تكاد تكون ثيمة النخيل أو المكان الإماراتي التراثي الشعبي، هي الأساس في الشخصية القصصية عند ناصر الظاهري الذي بدأ بمجموعة قصصية أعطاها اسماً مكانياً إن جازت العبارة: «عندما تدفن النخيل» وصدرت في عام 1990 عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، وكانت هوية تلك المجموعة هوية محلية إماراتية بكل الرمزيات الواردة فيها من البر إلى البحر، ومن النخلة إلى شقيقاتها من شجر المكان، وفي السياق القصصي الذي اتخذه الظاهري خياراً أدبياً أصدر في عام 1995 مجموعته الثانية «خطوة للحياة.. خطوتان للموت»، ثم في عام 1995 أيضاً صدر له «ما تركه البحر لليابسة»، ثم توالت مجموعاته الأدبية القصصية التي كرّسته واحداً من أبرز كتّاب القصة القصيرة في الإمارات، غير أن الظاهري رأى العالم كله وإن لم يَرَه كلّه، فهو على وشك أن يحيط بهذا الكوكب الذي عَصَرَه الظاهري بالكتابة في نوع آخر من الأدب هو أدب الرحلة أو أدب السفر، وذلك في نموذجه الأدبي «لليل طائره وللنهار المسافات».

ناصر الظاهري كاتب عمود يومي في الزميلة «الاتحاد» نقرأ فيه مرة في الأسبوع حول أسفار الليل والنهار، وهو لا يحتاج سوى إلى حقيبة وتذكرة سفر، وأسفاره أحياناً ليست مكلفة. أي فندق عادي شرط أن يكون نظيفاً يكفي للنوم تلك الليلة.

التقاطات

أحب في كتابة السفر عند ناصر الظاهري التقاطه للأشياء الصغيرة اليومية (العابرة) التي لا تراها إلا عين مثل عين ناصر، وهي أحياناً عين طفل، وأحياناً عين صحفي، وأحياناً عين قاصّ، وأحياناً عين سينمائي، وفي كل (العيون) عنده بؤبؤ في حدّة عين الصقر.

من بوابة الكاتب القصصي والكاتب الصحفي الذي لا يسمح لنفسه بأن يغيب عن قارئه منذ سنوات طويلة وهو يكتب بأناقة وحرفية وانتظام.. أَلِجُ إلى بوابة ناصر الظاهري «السينمائي» أو «الفيلمي» إن جاز الوصف، وأولاً في فيلمه «سيرة الماء والنخل والأهل 2015».

وكما نلاحظ يميل الظاهري دائماً إلى رمزية النخيل سواء في القصة أو في السينما؛ بل يميل دائماً إلى الرمزيات المكانية التي تحيل إلى هوية بلاده، مثل فيلمه «أثل»، وله فيلم آخر تسجيلي بعنوان «تسامح» ثم «حجر الرحى».. وجميعها تلخّص نزوع الظاهري إلى السينما، وإذا عدنا إلى قصصه القصيرة الثمانينية أو التسعينية سنجد أن قصة الظاهري تتكئ أحياناً؛ بل كثيراً، على الصورة، والسينما كما نعلم تعتمد على الصورة المتحركة التي تحوّل كل ما هو جامد وثابت إلى حياة ويقظة وتنفّس.

بحكم أن العمود اليومي عند ناصر الظاهري أحياناً يحمل شحنة أدبية سردية وأحياناً شعرية، فإنه راكم صفّاً طويلاً من الكتابات النقية العذبة جمعها في كتب: «العمود الثامن» و«مقابسات رمضان».

حيوية

يُطعِّم ناصر الظاهري عموده الصحفي أحياناً بقبسات من اللهجة الشعبية المحلية الإماراتية من دون أن يهز هوية اللغة الصحفية الرسمية أو الفصحى، بحيث يجد القارئ الإماراتي نفسه و«لغته» وهويته في المقالة الصحفية التي تحمل في داخلها الكثير من ماء الأدب.

ناصر الظاهري عمل في الصحافة العسكرية أو الإعلام العسكري، وظل في الوقت نفسه، ناصر الظاهري القاص والفنان، وعمل في مواقع صحفية متقدّمة، ولم تسرق الصحافة شيئاً من حقيقته الثقافية الأدبية، وهو اسم حاضر دوماً في الحياة الثقافية الإماراتية، ولم يُبعد نفسه إلى هامش أو إلى عزلة أو إلى هروب من الورقة والقلم والكتابة ورؤية العالم وعيش الحياة.

كاتب حيّ وحيوي. استحق حزمة من الجوائز السينمائية والصحفية والاعتبارية بجدارة قلمه، ووضوح رؤيته، وتفاؤله الدائم بالمحبة والجمال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/493jp8s7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"