عادي
قناديل إماراتية

سالم بوجمهور.. شاعر الغنائية البيضاء

14:46 مساء
قراءة 4 دقائق
سالم بوجمهور
  • - توازن بين القصيدتين الفصحى والشعبية

يوسف أبولوز
قلّة أولئك الشعراء الذين وضعوا لأنفسهم معادلة منطقية مريحة تتعلّق بالمزاوجة الإبداعية بين الشعر الفصيح، والشعر النبطي (أو الشعبي)، ومن هؤلاء أو على رأسهم الشاعر سالم بو جمهور (1962) الذي أخذ ينشر شعره منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين حتى اليوم، وبلا توقف وعلى النسق التزاوجي نفسه بين القصيدة الفصيحة والقصيدة الشعبية.

هذه حالة شعرية إماراتية يتوجب الالتفات إليها حقاً من جانب نقّاد الشعر وهي أن يوفّق الشاعر بين لسانين في الشعر أو بين بلاغتين.. بلاغة الفصيح، وبلاغة الشعبي، ولكن قبل فتح ملف سالم بو جمهور القارئ المنتظم، والناشط الثقافي في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات منذ تأسيسه في 1985 أشير إلى ثنائية بو جمهور التي جعلت منه بالفعل حالة شعرية إماراتية متفرّدة، فهو يجلس على نحو خمس عشرة مجموعة شعرية، وله تراث قرائي متخصص في الماجدي بن ظاهر، ويمتلك قلماً نثرياً ذا مداد ساخر أحياناً، بل، إن السخرية لا تغادر حتى شعره، لكنها سخرية ليست جارحة، ليست سخرية فجّة أو انتقامية، بل تقوم على قراءة فاحصة للموضوع الذي يتناوله أو يعالجه شعراً فصيحاً أو شعبياً، وفي هذه الحالة إذا أردت أن ترسم صورة قلمية لِ (بو جمهور) فأنت تظلمه إذا قرأته شعبياً وأهملته فصيحاً، كما تظلمه أيضاً إذا قرأته فصيحاً وأهملته شعبياً، ومن هذه النقطة تحديداً نقرأ سالم بو جمهور وفق القاعدة التي تقول إن الكثير من الفصيح موجود في الشعبي، والكثير من الشعبي موجود في الفصيح، لكن العلامة الأدبية أو (الماركة الأدبية) التي تؤشر بقوة على شعرية سالم بو جمهور هي بساطته وتلقائيته، وسهولته، وفي كل الأحوال بسيط لكن بعمق، تلقائي لكن بحساب، وهو سهل ولكن.. بصعوبة أو بشيء من الصعوبة، وذلك حين يلوّن وينوّع في الأوزان الفصيحة، والأوزان الشعبية.

**عذوبة

كمثال على بساطة سالم بو جمهور اقرأ معي هذا المقطع الغنائي العذب لشاعر مؤسس على الأصالة الأدبية وعلى القصيدة الخليلية، وهو في الوقت نفسه يكتب قصيدة التفعيلة يقول: دون أستاذ، ومن دونِ كتابْ/دون درسٍ وحضورٍ وغيابْ/ دون شرحٍ و نقاش وحوار/ وامتحان وسؤالٍ وجوابْ/ لغة الصمت وما أصعبها/ سهلة للناس في غاب الذئاب.

غنائية سالم بو جمهور عالية الإيقاع، وقصيدته موسيقية تماماً، لذلك فهو سهل على من يريد أن يغنّيه، وسهل أيضاً على من يريد أن يحفظه في النوعين أو في الشكلين العمودي والتفعيلي، وشخصياً، أقرأ بو جمهور باهتمام شديد في العمودي والتفعيلي، وألاحظ دائماً دقّته العروضية أو الوزنية، واهتمامه بالإيقاع والموسيقى، واختياره دائماً لغة ذات بلاغة من طراز خفيف إن جازت العبارة، فهو لا يلجأ إلى التقعيرات اللغوية، والمفردات القاسية الجلد والقماش كما يقولون، بل يختار دائماً لغة مفهومة، متاحة، ليّنة، لغة فيها الكثير من الماء، ونهره الشعري لا يجري فيه خشب أو حصى. تربيته الثقافية أو الشعرية تربية تقليدية لكن من دون غرق في ماضي التقليدية، وفي كل الأحوال هو أمين لتربيته الشعرية الأمر الذي جعل منه شاعراً بعيداً عن أضواء الشهرة والعلاقات الأدبية العامّة وسوق النقد والصحافة وإعلام الضوء.

تربية سالم بو جمهور جعلته شاعر القصيدة العمودية والتفعيلية، لا بل إن الكثير من نصوص بو جمهور التفعيلية يمكن تدويرها بكل بساطة إلى شكل عمودي. وفي كل الأحوال هو شاعر إيقاعي، غنائي خفيف على الأذن كما هو خفيف على الروح.

لم يكتب سالم بو جمهور قصيدة النثر، لكن ذلك لا يعني موقفاً إقصائياً تجاهها أو تجاه من يكتبها ونحن نعيش في بيئة شعرية إماراتية أو خليجية عموماً تتألف أساساً ومركزياً من ثلاثة (ألوية) شعرية إن أمكن إطلاق مفردة لواء على الشعر:.. لواء العمودي، لواء التفعيلي، ثم لواء قصيدة النثر.

**فطرة

لا يحمل بو جمهور عداوة مضمرة أو علنية أو زئبقية تجاه قصيدة النثر، ولكن تربية الرجل هكذا. إنه أقرب إلى روح فطرة البداوة التي تظهر أصالتها في قصيدته الشعبية تحديداً، وهو إن أراد يحوّل النثر إلى عمودي أو تفعيلي، فهو يمتلك الأدوات ويمتلك الأصالة الشعرية والثقافية التي تجعل منه قادراً على مثل هذا التحويل، ولكن القصة كلها لا تعني هذا الشاعر الذي يطرب للقصيدة الحبلى دائماً بالشعر.

في حدود معرفتي أيضاً أن سالم بو جمهور نأى بنفسه عن الهجرة الطوعية أو الاختيارية إلى الرواية، بينما هو قارئ رواية، ونأى بنفسه عن الخوض في التجربة النقدية مع أنه قارئ ذكي التقييم، وكما ذكرت، يطرب للشعر الذي لا يختبئ وراء غلالة من القماش الأبيض، وهو يمتلك فن الإصغاء - وأخلاقياته، ورأيه دائماً على لسانه. رجل لا يبلع موقفه، ويمتلك من الشجاعة الأدبية والثقافية ما يجعل منه قلماً وطنياً، وقد ذهب بشعره إلى لغة مباشرة لا تخشى اللوم ولا تخشى النفاق.

مع سالم بو جمهور نحن إذن أمام شخصية انضباطية، لكنها ليست الانضباطية المتجهّمة أو الإقصائية أو المغلقة على ذاتها، بل الرجل يحب الحياة، ويحب المرح، ومن جمالياته ضحكه الذي يحوّل اللحظة الصداقية إلى نبع من الشعر..

«يا عشّاق اللون الأزرق/ البحر يموتْ/ وسماء الدنيا تتمزّق/ يا عشّاق/ لن أكتب مرثاة الألوان/ لا الدمع معي في هذه اللحظة/ لا الأحزان/.. لكني في زمن اللحظة/ أرمي أسئلتي/ أرمي أقنعة الفرحة/ وأحاول أن أنزع جلدي/ أرمي صوتي/ ألغي رأسي/ كي تسقط أزمنة الكتمان».

**صوت

ذلك هو صوت سالم بو جمهور. الصوت الثمانيني الحيوي ضمن كوكبة من شعراء ذلك الجيل الذي تربّى على شعرية متوازنة دائماً. التوازن بين الخليلي والتفعيلي، التوازن بين الشعبي والفصيح، التوازن بين الأصالة والحداثة، التوازن بين المحلية المكانية والعالم، وهكذا بقيت الكثير من أقلام الثمانينات الشعرية الإماراتية حيّة وَحَيوية إلى اليوم، ومن بين هذه الكوكبة الحميمة ترتفع إشارة سالم بو جمهور، شاعراً إنسانياً، جمالياً، وطنياً، لا يمسك العصا من الوسط أحياناً، بل، كثيراً، ولا يستدرجك بجزرة أو حصان، بل هو في قلب ذاته.. شجاعاً في الكتابة، نبيلاً في الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2kk2x57m

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"