كيف اكتسب العلم الكئيب اسمه؟

21:36 مساء
قراءة 4 دقائق

عبدالعظيم حنفي*

ظهر كتاب «ثروة الأمم» عام 1776، وكان ذلك في بدية توالى الأحداث التي نعرفها اليوم بالثورة الصناعية. وكثيراً ما كتب آدم سميث عن القلاقل التي ستنجم عن حرب الاستقلال الأمريكية. ولكن على ما يبدو أنه لم يكن لديه ما يقال حول سلسلة الاختراعات التي كانت قد بدأت في تحويل الحياة الإنجليزية.

لم يأت سميث على ذكر الأنوال التي يتم تشغيلها بقوة المياه، ولا حتى محركات البخار أو الإضاءة بالغاز أو حتى ثورة تسويق وإنتاج الإنتاج الكبير لأواني الطعام التي كانت نتيجة لإبداع «جوشيا ويدجوود»، وذلك على الرغم من أن «ويدجوود» كان صديقاً لسميث على مصنع الدبابيس، فإنه تعامى عن أسباب ونتائج التصنيع.

بحلول عام 1815، على أي حال، أصبح دليل التحول واضحاً في كل مكان، حيث أصبح هناك هوس ببناء القنوات تزيد وتتناقص خلال التسعينات من القرن السابع عشر، وأصبحت هناك طرق تربط بين المدن الإنجليزية. وأصبح القطن ينسج في المحالج الموجودة في المناطق الحضرية، وتزايد الطلب على الصوف لدرجة أنه تم عمل أسوار لمساحات شاسعة من الأراضي وفر المستأجرون ليفسحوا مكاناً لقطعان الغنم. ونفثت أفران الصلب والفحم النيران. وظهرت الخطوط العريضة لنظام المصانع. وذلك كما كتب المؤرخ الإنجليزي «آشتون» فيما بعد أن «دخان المداخن ارتفع ليقزم الأبراج القديمة». ولكن عندما بدأ الجيل الثاني في العمل على تصحيح الأخطاء التي وقع فيها سميث. لم يكن يمكن تجاهل الآثار الناجمة عن التقنيات الحديثة، وخصوصاً فيما يتعلق بعنوان البداية الذي ركزت عليه تحليلات سميث لمصنع الدبابيس.

والآن، على الأقل، يمكنك أن تتوقع ماذا يمكن أن يحدث؛ إذ إن ما حدث بعد ذلك هو أساس القصة بأكملها. كانت فترة التسعينات من القرن الثامن عشر فترة غير ملائمة للتفاؤل. وقد توفي سميث عام 1790 وهو لا يزال يعتقد بأن سقوط «الباستيل» كان علامة جيدة. ولكن اندلعت الثورة الفرنسية، متسببة في حدوث صراع بين إنجلترا وفرنسا استمر لربع قرن. وامتدت المناوشات بين الدولتين لتصل إلى أقاصي الأرض، وفي إنجلترا تلاشى الحماس الاقتصادي السياسي, وأصبحت الدوائر الحاكمة تنظر إلى أفكار سميث على أنها أفكار تخريبية لاستقرار النظام القائم. تسببت الحرب في حدوث حرمان، وتسبب الحرمان في حدوث اضطرابات. بدأت الحرب بين إنجلترا وفرنسا عام 1792 واستمرت حتى عام 1799 مع حدوث بعض فترات التوقف، وذلك عندما تولى نابليون الحكم. حيث أنتج نابليون ثورة خاصة به، على الأقل بالنسبة لأوروبا. وامتدت ساحة المعركة من مصر وسوريا إلى سويسرا وإيطاليا وهولندا، وكان نابليون هو السبب في هذا التوسع وبحلول عام 1803 كان نابليون يعد نفسه لغزو إنجلترا بجيش قوامه 100,000 جندي فرنسي، وقد هزمت البحرية البريطانية هذا الجيش، وهنا نصب نابليون عينيه على روسيا بدلاً من إنجلترا.

وفي تلك الأثناء بدأ تعداد السكان في إنجلترا يتزايد بطريقة غامضة. بعد مرور قرنين من الاستقرار النسبي، تضاعف عدد السكان ليصل إلى حوالى 10 ملايين نسمة في خلال فترة عشرين عاماً من 1780 – 1800، ما أدى إلى حدوث أنواع جديدة من الأزمات. وتحولت الدولة التي كانت دائماً ما تطعم نفسها إلى دولة مستوردة للحبوب، وارتفعت أسعار الخبز إلى مستويات غير مسبوقة. وبعد ذلك تم منع استيراد الحبوب لضمان حصول المزارعين الإنجليز على أسعار مرتفعة مقابل محصولهم من الحبوب وذلك حتى يتسنى لهم استصلاح مزيد من الأراضي. وتزايدت معدلات الفقر والبؤس بطريقة غير مسبوقة، خاصة في المدن المتضخمة بالسكان. وكانت هناك حالات من التمرد والشغب ودعوات للقيام بثورة. وعجلت الأزمة العسكرية بحدوث ذعر مالي. ومن ثم حدوث سلسلة من الاضطرابات.

حتى عام 1800 لم تظهر أي أطروحة اقتصادية ذات أهمية وذلك طوال فترة ربع قرن منذ أن ترك سميث قلمه. ولكن على أي حال. كان هناك عدد كبير من المعلقين على أراء سميث، على جانبي القنال الإنجليزي. يمكن أن نطلق عليهم الآن فلاسفة سياسيين. أو علماء أو أولئك الذين يبسطون الأمور ويجعلونها في متناول الجمهور. وتدرج هؤلاء الرجال العمليون من أمثال بنيامين فرانكلين و إدموند بورك. إلى الإصلاحيين من أمثال «ويليام جودوين»، والذين استطاعت كتاباتهم عن شرور الحكومة وكمال الإنسان أن تجذب عدداً كبيراً من القراء في إنجلترا. وقد كان «ماركيز دي كوندورسيت» (1743 – 1794) أكثر تفاؤلاً من الجميع. وهو عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي المتميز الذي دخل مجال السياسة وأصبح رئيس الجمعية التشريعية خلال الفترات الأولى من الثورة الفرنسية.

كان «كوندورسيت» معلقاً جاداً. ولكن مع وصول الثورة الفرنسية لمرحلة الإرهاب، كان الوقت قد داهمه؛ حيث قام بكتابة أفكاره على عجل بعنوان «رسم صورة تاريخية لتطور الجنس البشرى».

وقد كان يدرك تماماً أن تعداد السكان في إنجلترا وفرنسا يتزايد بسرعة، لكنه لم يكن قلقاً حيال هذا الأمر. وقد أكد أن القوى التحويلية للعلم سوف تؤدى إلى «ليس فقط أن تصبح هناك إمكانية لحياة عدد أكبر من الأفراد على مساحة أقل من الأرض»، لكن «سيكون هناك قدر أقل من العمل المطلوب من الجميع، وسوف يكون كل فرد قادراً على إنتاج المزيد. وبالتالي سيتمكن من الوفاء باحتياجاته بطريقة أكثر إشباعاً. وذلك وفقاً لكتابات» كوندورسيت، كما أن معدلات الأعمار سترتفع، فضلاً عن إثارته الجدل حول فكرة أن معدلات الزيادة السكانية ستتباطأ مع زيادة معدلات الثروة وذلك منذ زمن بعيد.

ولكن تلك التأكيدات المتفائلة حول الميل إلى النمو لاقت آذاننا صماء. وبعد انتهاء كوندورسيت من أنشوداته حول التقدم العلمي، قام الثوار في فرنسا بقتله؛ حيث وضع له السم في زنزانته. وفي الوقت المناسب لم يسلم حتى آدم سميث نفسه من الطعن في آرائه، وفي الوقت الذي هزم فيه نابليون أخيراً في موقعة «واترلوو» Waterloo عام 1815، كان نصف سكان إنجلترا وأوروبا لم يعرفوا السلام قط، وأصبح معظمهم يعانون المجاعات والأمراض.

على ضوء تلك الخلفية صعد كل من دافيد ريكاردو ومالتوس إلى الصدارة، فهما معلقان رصينان على الساحة المتغيرة للأحداث، كما كانا على اتصال مع الميول التاريخية الأكثر إظلاماً. ومثلا علامة مميزة في مسيرة علم الاقتصاد. وتلك قصة أخرى.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdw5t2uu

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"