عادي

دراما الصحراء.. إبداع خارج العلبة

23:40 مساء
قراءة 6 دقائق
مشهد من العرض الكويتي «الأصاخيب»

الشارقة: علاء الدين محمود
شكل جديد ومختلف من العروض المسرحية ظل يقدّمها مهرجان المسرح الصحراوي منذ انطلاقته في عام 2015، برعاية إدارة المسرح في دائرة الثقافة في الشارقة، فهو يجسد رؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، ويسترشد بتوجيهاته ورؤيته في تطوير الفن المسرحي عبر ممارسات مسرحية تستند إلى مرجعية الثقافة العربية وما تتضمنه من قيم وتقاليد وعادات، خاصة الصحراء التي تتفرد بخصوصية عيش وطريق حياة وممارسات جمالية متنوعة، ويشتهر إنسانها بالنبل والكرم.

يعمل هذا المسرح على تقديم أشكال جديدة من الأنماط الأدائية تجسد تلك المعاني المرتبطة بحيوات الصحراء، وقيمها وثقافتها وحكاياتها وأشعارها، وطريقتها في التعبير عن ذاتها عبر فرجة مفتوحة مبتكرة تبتعد عن العلبة الإيطالية، وغير ها من الطرق التقليدية التي تقدم إضاءات حول الكثير من عوالم الصحراء غير المكتشفة، خاصة أنها تضم تراثاً ثقافياً كبيراً ومتنوعاً، لذلك فإن المهرجان يعبر عن الصحراء كمفردة ثقافية وتراثية عربية بطرق وأساليب ورؤى جديدة.

ولعل من أكثر النجاحات التي حققها المهرجان عبر دوراته المتعاقبة، في سياق بحثه عن الاختلاف، أنه أسس لقيمة جمالية كبيرة، تتمثل في حريتي التلقي والعرض، وذلك لكون أن المخرج يمارس إبداعاته الجمالية ومقارباته في حرية كاملة لكون المسرح مفتوح، وهذا أيضاً ينطبق على الممثلين. وكذلك فإن الجمهور أيضاً يمارس فرجته في حرية، فمكان العرض المكشوف يختلف عن القاعة المقيدة للمسرحيين وللجمهور معاً، ويحدث خلال عروض المسرح الصحراوي ذلك التفاعل الكبير بين الممثلين والمتلقين الذين هم أنفسهم جزء من العرض، وبالتالي يتحقق شرط الفرجة عبر ذلك التفاعل.

رؤية مختلفة

ويرى العديد من المسرحيين الإماراتيين الذين تناولوا تجربة المهرجان والعمل في الفضاء المفتوح، أن عوامل المكان تساعد مصمم الديكور والإضاءة وكذلك المخرج في التعامل مع الفضاء في المسرح الصحراوي بصورة جماعية، وذلك الأمر يعتمد بصورة أساسية على العمل والموضوع الذي يطرح، حيث إن بنية النص مسألة شديدة الأهمية؛ إذ إن النصوص في حالة مثل هذا النوع من المهرجانات تعتمد على مفردات البيئة الصحراوية، لذلك فإن العمل في المسرح الصحراوي بفضائه المفتوح مسألة غاية في الصعوبة، نسبة لأن زاوية الرؤية مفتوحة على كل الاتجاهات، إلا أن الفرصة متاحة بصورة كبيرة أمام المسرحيين لتقديم رؤية جمالية مختلفة ومبتكرة.

وخلال الدورات السابقة من المهرجان قدم صنّاع المسرح جهداً مميزاً في اتجاه استلهام المنجز الأدبي الصحراوي، والمتمثل في الإنتاج الإبداعي في مجال السرد والأمثال والأساطير، وغير ذلك من الأنماط الفنية والأدبية؛ الأمر الذي أضاف إلى تلك التجارب والعروض بصمة وهوية جمالية مغايرة، تختلف عن الأنماط التقليدية.

مميزات

وتكمن أهمية هذا المهرجان في كونه يقدّم مقترحاً جديداً في تقنيات وأساليب العرض، وكذلك لكونه يتجه إلى الثقافة الصحراوية التي تجمع بين أكثر من بلد عربي واحد، تتقارب فيها العادات والتقاليد الصحراوية وتتشابه. وفي الوقت ذاته، فإن لكل بلد خصوصيته الاجتماعية والثقافية وممارساته الجمالية، حيث إن المهرجان في الأساس هو اقتراح لفضاء جديد للممارسة المسرحية، واستظهار المقومات الفنية في الأشكال التعبيرية والأدائية البدوية، وبالتالي فإن المهرجان هو نقطة التقاء بين تلك الدول لعرض إبداعاتها التي تنتمي إلى الصحراء، حيث إن كل العروض التي تقدّم هي عبارة عن قصص وحكايات صحراوية، ويتجمل العمل المعروض بما اشتهرت به الصحراء من أشعار وأهازيج وموسيقى تدخل كعامل سينوغرافي مهم ضمن عناصر العرض، كما أن الديكور يعتمد بصورة كبيرة على البيئة الصحراوية من خيم وآبار وأزياء الإنسان البدوي، وبالتالي فإن المهرجان يثري ذلك التنوع العربي في الصحراء بتلك الأعمال التي تربط الإنسان بجذوره وبيئته، ويحافظ على الهوية العربية الصحراوية ويحتفي بخصوصيتها في زمن كادت أن تذوب فيه الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لمصلحة هوية وثقافة عالمية واحة، تريد أن تمارس فعل الهيمنة عبر جحافل الغزو الثقافي.

جمهور

وهناك جانب شديد الأهمية في ما يتعلق بالمهرجان، وهو المتلقي، حيث تنشد هذه المنصة الفريدة التفاعل الجماهيري، أو كما يقول مدير إدارة المسرح أحمد أبو رحيمة: «فكرة المهرجان ترتكز على أن المسرح يجب أن يذهب إلى الجمهور، ففيه يمتزج الفني والاجتماعي والفولكلوري، وفيه احتفاء وإيمان عميق بغنى وثراء الثقافة الصحراوية، هذه الثقافة الحيوية التي لطالما ألهمت أسفار الرحالة، وقصص الرواة، وألوان الرسامين، بفضائها الواسع وامتداداتها غير المحدودة، برمالها وكثبانها ووديانها وعمارتها وناسها، وعاداتهم وتقاليدهم في شتى أحوالهم»، وهو الأمر الذي تحقق عبر الدورات السابقة، حيث نجح المهرجان بالفعل في اجتذاب أعداد كبيرة من الجمهور العاشق للمسرح، وذلك أمر من أكبر التحديات التي واجهها «أبو الفنون» في الإمارات منذ تاريخه الباكر، وهو كيفية جذب الجمهور للعروض المسرحية.

وقد رأينا كيف أن التفاعل مع قضايا المجتمع قد أنتج جمهوراً للمسرح منذ بداياته، والمسرح الصحراوي هو في الأساس يخاطب قضايا وشواغل أبناء وبنات الصحراء ويعكس ثقافتهم، وبالتالي وجد مردوداً جماهيرياً كبيراً، حيث يشدّ الكثير من المواطنين رحالهم من مختلف أنحاء الإمارات نحو صحراء «الكهيف» في الشارقة، ليشاهدوا تلك العروض التي تمثّلهم وتنتمي إليهم وإلى قيمهم وعاداتهم القديمة، وفي الوقت ذاته يمارسون في تلك الصحراء فعل التخييم خلال أيام المهرجان.

تطوير

ولئن كانت هناك مشكلة في استقطاب الجمهور نحو العروض، فإن أحد أهم الحلول يتمثل في أعمال تنتمي إلى الناس وتعبر عنهم، حيث إن المهرجان ينهل من البيئة المحلية، ويتناغم معها عبر عروض مسرحية تنشد الجمال وتستدعي التراث. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية طفرة كبيرة على مستوى جذب الجمهور إلى المسرح، ما خلق حالة حقيقية من التفاعل، عبر العبور الكبير الذي مارسه المسرح الإماراتي من التقاليد الغربية، إلى حالة عربية تعبر عن الواقع، ما جعله المنصة الأبرز حالياً.

والواقع أن الشارقة عبر إطلاقها لهذا المهرجان، وفي كل دوراته السابقة، لم تكتف بتأسيس البعد المفاهيمي الثقافي المشار إليه آنفاً؛ بل أرادت تطوير أدوات خاصة للصناعة المسرحية بعيداً عن الطرق المعروفة، وربما ذلك يمثل دافعاً لإدارة المسرح في دائرة الثقافة نحو ابتكار مهرجانات جديدة تعبر عن مفردات تراثية أخرى مثل مسرح البحر وغيره.

دورات

خمس نسخ مضت من عمر المهرجان، حيث كانت التجربة الأولى في عام 2015، هي بمثابة انطلاق يبحث عن اقتراح لفضاء جديد للممارسة المسرحية، بمشاركة فرق فنية من الإمارات والسعودية وموريتانيا والأردن، قدّمها وشارك فيها أكثر من 350 شخصاً من ممثلين وراقصين ومؤدين، تمحورت بنيتها على الحكاية والشعر والأداء، وعلى أساليب عدة من التعبيرات الفنية التي تختزنها الذاكرة الجمالية للصحراء، عكست الملامح المتنوعة للثقافة الصحراوية في المشرق والمغرب من الوطن العربي، في التجربة الأولى والتي لقيت نجاحاً قاد إلى النسخة الثانية في عام 2016، والتي ارتفعت فيها نسبة مشاركة الدول العربية بعروض تعبر عن المجتمع الصحراوي العربي، في مبناها ومعناها، وشهدت النسخة تطوراً في الفكرة نفسها وعلى مستوى الأساليب، وهو الأمر الذي صار سمة للمهرجان الذي أصبح يتطور من دورة إلى أخرى، وها هي الدورة السادسة تحمل بين طيّاتها كذلك، عروضاً جديدة لحكايات مختلفة عن الصحراء في حوارية تجمع بين مختلف الدول العربية.

ولعل أكثر ما يميز دورات المهرجان المتعاقبة هو اتجاه المسرحيين نحو التجديد والابتكار؛ الأمر الذي جعل كل نسخة تتميز عن سابقتها، وهو الأمر الذي يشير إلى أن الدورة السادسة ستحمل الكثير من الابتكارات والمقاربات المختلفة والجديدة للجمهور.

وبمرور السنوات نجد أن المهرجان قد تطور كثيراً على مستوى الممارسة الإبداعية المسرحية من خلال الابتكارات التي ظل يقدمها المخرجون والكتاب، وكذلك على مستوى الفكرة نفسها التي ترسخت وصار المهرجان يشهد زيادة عدد الدول العربية المشاركة فيه، والتي كشفت عن إبداعات في الأشكال التعبيرية والأدائية التقليدية التي طورتها مجتمعات الصحراء العربية.
نشاط فكري

لعل أهمية المهرجان لا تكمن فقط في العروض وحدها، أو الحضور الجماهيري الكبير فقط؛ بل هناك أنشطة ثقافية أخرى تتمثل في المسامرات النقدية التي تعقب العروض المسرحية والتي يشارك فيها عدد من نخبة النقاد والمسرحيين العرب، وكذلك هناك الندوات الفكرية التي تشهد نقاشات حول هذا النوع المسرحي المختلف والفريد، حيث سعت الندوات في الدورات السابقة إلى تأصيل فكرة المهرجان وجعلها أكثر انتشاراً وتمدداً وابتكاراً، وناقشت عالم الصحراء كمستودع للأسرار والأساطير والروايات الشعبية.

1
مشهد من العرض الموريتاني «ليالي لعزيب»
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n8n4sft

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"