النفاق البيئي

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

لم تنفض وفود مؤتمر المناخ (كوب 27)، وعثاء السفر بعد عودتها من شرم الشيخ في مصر حتى عادت الدول الأكثر تلويثاً للبيئة عبر انبعاثاتها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى عادتها القديمة. والمفارقة أن أكثر الدول لوماً للآخرين على تقاعسهم في مكافحة التغير المناخي هي التي تنكص بتعهّداتها لاعتبارات مصالح سياسية داخلية آنية، غير عابئة بتأثير ذلك في سكانها وفي بقية العالم في المدى المتوسط والطويل.

فالإدارة الأمريكية الحالية تسعى إلى «قيادة العالم» في التحول البيئي في مجال الطاقة نظرياً. هكذا هو لغو حديثها الدولي ومطالبها للدول الأخرى الأقل تلويثاً للبيئة، لكنها في النهاية تفعل العكس عندما يتعلق الأمر بسياسة الطاقة الداخلية فيها.

فيكرر البيت الأبيض مطالبة شركات الطاقة الأمريكية الكبرى بزيادة إنتاج النفط والغاز، من ناحية لتلبية الطلب الداخلي كي لا ترتفع أسعار الوقود في المحطات بما له من تداعيات انتخابية، ومن ناحية أخرى لزيادة تصدير النفط والغاز إلى أوروبا، التي تعاقب روسيا بوقف استيراد الطاقة منها.

ليس هذا فحسب؛ بل إن واشنطن تعدّل سياسات العقوبات التي تفرضها على البعض في العالم كي تعزز حصتها من سوق النفط والغاز العالمي؛ إذ قررت أمريكا قبل أيام السماح لشركة «شيفرون» بالعودة للعمل في فنزويلا الخاضعة لعقوبات أمريكية، وزيادة إنتاجها من هناك.

أما بريطانيا مثلاً التي استضافت مؤتمر المناخ العام الماضي تحت شعار ريادتها في مكافحة التغير المناخي والحفاظ على البيئة، فهي تستعد للتصريح بأكثر من مئة حقل نفط وغاز في العامين القادمين.

وتتردد حكومتها في السماح بإقامة توربينات توليد الطاقة من الرياح على اليابسة؛ لأن قطاعاً من الناخبين الموالين لحزب المحافظين الحاكم يعترض على ذلك.

ليس هذا فحسب؛ بل إن واردات بريطانيا من الفحم تضاعفت في الأشهر الأخيرة. ومعروف أن الفحم أكثر تلويثاً للبيئة بمراحل من النفط والغاز. وستستخدم بريطانيا الفحم في توليد الطاقة هذا الشتاء، مع أزمة خانقة تشهدها، ليس فقط بسبب أزمة عالمية، وإنما نتيجة سياسات حكوماتها بدءاً من الخروج من أوروبا، إلى إعادة تفصيل التشريعات لأسباب انتهازية تتعلق بالمصالح الانتخابية.

وليست بريطانيا وحدها التي أعادت تشغيل محطات طاقة تعمل بالفحم في الآونة الأخيرة؛ بل إن ألمانيا والولايات المتحدة وغيرهما فعلت الشيء نفسه.

وهذا هو النفاق البيئي من قبل الدول الصناعية الكبرى التي تعظ بقية العالم، بينما تفعل هي عكس ما تدعو الآخرين إليه، وهي الأكثر ضرراً بجهود مكافحة التغير المناخي من بنود الاتفاقيات الدولية، وتعهدات «الأطراف» في اتفاقيات المناخ.

ربما لا يكون النفاق البيئي هو الشكل الوحيد للنفاق الغربي، الذي يراه كثيرون في موضوع حقوق الإنسان مثلاً. لكن في ذلك الأخير ربما يحتمل الكيل بمكيالين، خاصة أن نفاق الغرب يصادف هوى لدى البعض خارجه لتقاطع مصالح انتقائية، لكن النفاق البيئي لا يبدو فجاً فقط، بل هو خطر على كوكب الأرض كله ومستقبل حياة البشر فيه.

أما مصدر الفجاجة في النفاق البيئي للغرب فهو أن الدول الأقل تلويثاً للبيئة، هي التي تتصدر الآن منحى التحول إلى مصادر طاقة نظيفة، وتستثمر بكثافة في مصادر الوقود المتجددة من طاقة شمسية وطاقة من الرياح وهيدروجين أخضر وغيرها. وكأنما يريد الغرب الإبقاء على نهج أقرب للنهج الاستعماري: أنتم تنتجون ولا تلوثون ونحن نستهلك ونلوّث.

وهذا نهج يتجاوز النفاق إلى الاستغلال غير المنطقي. حان الوقت لأن يقف القدر الأكبر من دول العالم التي لا تُصدر نشاطاتها انبعاثات سوى بأقل من عشرين في المئة مما يلوث البيئة، وتتصدى للعدد القليل من الدول الكبرى التي تصدر عنها نسبة ثمانين في المئة من الانبعاثات المسببة للتغير المناخي. ليست وقفة فقط للتعويض عما أصاب بقية دول العالم من أضرار، ولكن لمواجهة تلك الدول الكبرى مثل بريطانيا وأمريكا وألمانيا وغيرها بأن نفاقها غير مقبول، وأن عليها أن تستثمر في معالجة الخطر الذي سبّبته بقدر نسبة تسببها فيه.

على الأقل، نواجهها بحقيقة نفاقها مع تحذير بأننا لن ننفق أكثر على «تنظيف» تلويثها لبيئة الكوكب، وأن عليها أن تتقدم الصفوف في مواجهة هذا الخطر الذي لا يفرّق بين دولة وأخرى، ومجموعة بشرية وغيرها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2fnafn5r

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"