هزّة أكاديمية تجاوزت مقياس ريختر

00:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

قدّم دكتور لبناني استقالته من الجامعة الوطنية اللبنانية بعد عشر سنوات؛ لأنّه وجد نفسه هامشياً في مجتمعه وبلا كرامة أو تقدير لعلمه. يتقاضى الرجل مبلغ 60 ألف ليرة أجراً للساعة ليقبضها بعد سنتين ويتحمل نفقات التنقل التي تتجاوز ما يقبضه وهو من دون ضمان صحي.

فشل الزملاء في إقناعه بالتراجع لكنه أصر وبحدة ودمعة لم تتّضح تماماً في مقلتيه، ليكتب رسالة استقالته للعميد ويسجّلها وممّا جاء فيها: «يوم أمس قدم ناطور البناية حيث أسكن استقالته، وأبلغنا بأنّه لا يستطيع الاستمرار في العيش بالراتب القديم مع العلم أن تكاليف سكنه ومصاريف الكهرباء والماء هي على حساب قاطني البناية، وطلب راتباً ستة ملايين ليرة. وبما أنني سأدفع حصّتي له أي ما يساوي ما أقبضه من الجامعة، طلبت من الجيران التمهل في الجواب، وقررت أن أعمل ناطوراً للبناية».

«لم أنم.. درست الموضوع طوال الليل فوجدت أن المناسب والأكثر ربحاً لي أن أعمل ناطوراً للبناية التي أقطن فيها...فاقبض 6 ملايين من دون ضريبة. أفسخ عقد إيجار بيتي، وأُرسل عائلتي إلى قريتي حيث لدينا منزل صغير مقفل هناك، وأوفّر بذلك مصاريف سكني والكهرباء والماء مجاناً، وأُوفّر أيضاً أجرة تنقّلي إلى الجامعة لمتابعة طلابي ثلاثة أيام في الأسبوع حضورياً، مّا يوفر لي مليونين ونصف المليون، فيصبح مجموع ما أقبضه شهريّاً 8.5 مليون، عندها لا أعود مضطراً لشراء بدلة صيفية وأخرى شتوية تليق بالتعليم للأستاذ الجامعي، وهذا يعني توفير 200 دولار أي ما يوازي 8 ملايين فيتجاوز مدخولي ال 9 ملايين ليرة».

حاول العمداء إقناعه بالتراجع وبضرورة التضحية وحماية الجامعة الوطنية وطلاّبه ولربّما تتحسّن الظروف في الجامعة ولربّما في لبنان، فكان رده إن أولادي هم أولى بأن أقدم لهم ما يحفظ شيئاً من كرامتهم الإنسانية ومستقبلهم وحتى لا يموتوا جوعاً على الأقلّ.

قبل مغادرته الجامعة. أدار وجهه وقال: «أنا على استعداد لإعطاء الدروس (أونلاين مجاناً) لحفظ الجامعة ومتابعة الطلاب (تطوعاً) من غرفتي الجديدة التي سيخليها الناطور بعد يومين. همس العميد: سيبقى اسمك على برنامج الدروس.. ولن أمحوه».

هزّت القصّة الجسم التعليمي فقد تجاوزت مقاييس ريختر التربوية، ولم يسمع بها لبنان الرسمي الذي طالما تباهى رافعاً رأسه بأنّه جامعة العرب ومعقل الأكاديميات التي أصيبت بأمراض تعددية الطوائف والأحزاب والتراجع والجهل بما يندى له جبين الأكاديميين إذ يتفرّق شابات لبنان وشبابه أيدي سبأ. إنّ كبار الأساتذة الجامعيين باتوا في الخارج، وتكفينا طوابيرالشابات والشباب المتكدسين للحصول على جوازات السفرأو أمام السفارات لندرك معنى تفريغ لبنان. لبنان الرسمي في تناثر وتنافر وشلل ونقاش ممل بدولة الفراغ وصلاحيات جلسات الحكومة المستقيلة أو البرلمان بانتظار رئيس للبنان.

لربّما يقول سائل: لكن المشهد العام لبلدكم لا يبدو، من بعيد بائساً، إلى هذا الحدّ؟

الجواب أوّلاً، أنّ القطاع الخاص في لبنان«تدولر» وبات يدفع لموظفيه قسماً من رواتبهم بالدولار(فريش)، وثانياً، يسهم تدفّق اللبنانيين المهاجرين بالملايين من أنحاء العالم إلى لبنان عبر رحلتي الصيف والشتاء متحدّين السقوط والانهيارات الشاملة لكن النتيجة النهائية في معظمها تصبّ في حسابات أركان الدولة والأحزاب وكبار التجار والوكلاء الحصريين الأبديين، مقابل تراكم جبال الكوارث والفساد لتدمير القطاع العام المترهل.

كيف؟

1- لا يتجاوز راتب الأستاذ الجامعي الحامل ل 2 دكتوراه وصاحب المؤلفات والمحاضرات والدراسات وعقود من التعليم والإشراف والمشاركة في تخريج العشرات من طلاّبه حاملي الدكتوراه ال172 دولاراً.

كان يجب فصل المحسومات التقاعدية عن موازنة وزارة المالية إنصافاً لأساتذة الجامعة وحفاظاً على أموالهم العائدة لهم وحدهم لأنّها أموال تراكمت من حسوماتهم الشهرية التقاعدية في خزينة الدولة التي أهدرتها عبر سنوات خدماتهم الطويلة في الجامعة الوطنية.

2- تدفع الدولة الفرنسية، في المقابل، من موازنتها لضمان موظفيها 74.28 بالمئة من راتب الموظف في القطاع العام تغطية للنفقات التقاعدية والطبابة والاستشفاء، ويمول الأستاذ الجامعي تقاعده من حسوماته التقاعدية التي تبلغ 6 في المئة من راتبه، ليبلغ الوفر المحقق لهذا الأستاذ الجامعي من مساهماته لتمويل تقاعده ما يزيد على 200 ألف دولار عند الوفاة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/jn8b6paz

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"