عهد سوداني جديد

01:41 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

«إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر».. كلمات قالها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي قبل 89 عاماً، وستظل خالدة في وجدان الشعوب الطامحة للأفضل والساعية للخروج من ظلمات الماضي إلى أنوار الحاضر وآفاق المستقبل.

الشعب السوداني أراد الحياة، وأدرك أن السبيل لتحقيق إرادته هو الحوار، وأنه هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق آماله في بناء دولته على الأسس الديمقراطية التي ينشدها. وبعد أزمة تجاوزت العام وأوشكت أن تحدث فتنة بين العسكريين والمدنيين، احتكم الجميع للغة العقل، وكان اللقاء على مائدة حوار، استمعت خلالها مختلف الأطراف للوسطاء الدوليين والإقليميين، وتيقن الجميع أن التوافق هو الوسيلة الوحيدة لتجاوز الأزمات، وأنه هو المعبر المتاح لغد أكثر أماناً واستقراراً، وأن آمال الشعب السوداني في الحكم الديمقراطي لا يمكن أن تتحقق بالتفرغ للتظاهر والاقتتال الذي يزيد الأزمة تعقيداً ويأخذ الجميع إلى نار تحرق الوطن والشعب؛ بل بالحوار والتفاهم وعدم التعنت وتقديم التنازلات ينجو الجميع وينهض الوطن وتتحقق الآمال.

نعم السودانيون يريدون الحياة، والقدر استجاب لهم، ويداً بيد اتفق العسكريون والمدنيون، ووقع رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) مع تحالف «الحرية والتغيير»، على الاتفاق الإطاري «للانتقال إلى الحكم المدني وعودة الجيش إلى ثكناته ليتفرغ لمهام حفظ الأمن والاستقرار، وسط حضور دولي وإقليمي كبير لأطراف أسهمت في التوصل إلى هذا الاتفاق لإنهاء أزمة ألقت بظلال قاتمة على السودان وكادت أن تحدث انقساماً بين مكوناته المدنية والعسكرية، وأفرزت أزمات اقتصادية طاحنة وغضباً شعبياً عارماً، وبالحوار تم احتواء كل ذلك والاحتكام للغة العقل لتحقيق الإرادة الشعبية بأقل الخسائر الممكنة.

52 فصيلاً سياسياً من الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني اتفقوا على الاحتكام للغة العقل، وقائد الجيش تعهد بخروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية نهائياً، استجابة للمطالب التي يرددها الثوار: «العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات»، وأكد أن الالتزام المهني العسكري يعني اعتراف العسكريين بالقيادة السياسية للمدنيين، والبقاء على الحياد، وحصر مهمة الجيش في حفظ الأمن من المهددات الخارجية. وأقر نائبه بالأخطاء التي ارتكبها الحكم العسكري خلال الفترة الماضية، وارتضت القيادات العسكرية بأن تكون الكلمة العليا في إدارة البلاد لمن سيتم انتخابه بعد وضع دستور جديد وإجراء انتخابات حرة نزيهة، وسيكون قائداً أعلى للقوات المسلحة، على أن يتم تشكيل مجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء ويضم قادة الجيش. ولعل التعهد بتوحيد الجيش وعدم تشكيل أي ميليشيات عسكرية خارجة هو الضمان الأكبر لعدم ترك أي ثغرة للاقتتال والاستقواء بالعناصر المسلحة في وجه المدنيين.

24 شهراً هي مدة المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات وتحقيق الحلم بحكم مدني خالص، وعلى الرغم من ذلك، فإن الاتفاق لم يمهد الأرض بشكل كامل للسلام الداخلي خاصة أن بعض القوى اختارت طريق الرفض والإصرار على التظاهر بحثاً عن مكتسبات، لكنها قوى محدودة معروفة المآرب والأهداف، ولا تريد سلاماً ولا استقراراً للبلاد، وهو ما يفرض على القوى الموقعة على الاتفاق الدفاع عن خياراتها وأمن بلادها بالحكمة حتى ينصهر الجميع داخل البوتقة الوطنية ويتجاوز السودان أزماته ويقفز نحو المستقبل واثق الخطى.

التحديات التي تواجه السودان لن تنتهي بين عشية وضحاها، ورموز الحكم «الإخواني» السابق لن يستسلموا وسيحاولون بكل الطرق إثارة الفتن، ولعل السلاح الأفضل لوضع حد لتحركاتهم الخبيثة هو الوعي الذي يتسم به الشعب السوداني، فهو وحده الذي يمكنه مواجهة مؤامراتهم للقفز على السلطة مرة أخرى، أما باقي القوى المتحفظة على الاتفاق فيمكن بالحوار أن تعيد حساباتها وتلحق بركب الحكم الديمقراطي المنتظر والذي أصبحت الأرض ممهدة له، ولا يحتاج سوى تعانق الأيدي وتجاوز المصالح الصغيرة ومكتسبات الأفراد والأحزاب لصالح مكتسبات الوطن.

الاتفاق الإطاري درس سوداني لكل الدول المحيطة العاجزة عن تحقيق التوافق بين مكوناتها في المنطقة، والغارقة في مستنقع الاقتتال السياسي والتصارع الفئوي والجهوي والطائفي، والأمر لا يحتاج سوى إرادة شعبية تفرض على تجار الأوطان الالتفات للصالح الوطني وتجاوز المنافع الشخصية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycx7xrns

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"