محنة العقل اللبناني

00:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

عثرت على رسالة للشاعر سعيد عقل مذيلة بتوقيعه بتاريخ 13 يونيو/حزيران 2000 وأنا منهمك بنهاية حياتي الأكاديمية ومناقشة دكتوراه أشرفت عليها حول «مستقبل الفرنكوفونية في لبنان». ذكرت الفرنكوفونية لا للمصادفة وحسب، بل للفشل الذريع بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بحثاً عن السيادة في الخارج. يحكم التعثّر العام لبنان في التقاط سيادته، ويبدو حجم الملفات والمقابلات والدراسات والأشرطة لسياسيين ينضّدون ياقاتهم هائلاً، ولا ينضّدون ألسنتهم وعقولهم ملوّحين دوماً بالحرائق بدلاً من الحقائق، وكأنهم امتهنوا إيقاع الداخل بالخارج فتقوى التناقضات ويتجدّد البحث الدائم عن الجمهورية.

يطرح الوضع أمرين:

* أوّلاً: محنة العلاقة المتلبسة بين العقل السياسي اللبناني المُشابه لدوران الكرات فوق الملاعب بين أيدي اللاعبين السياسيين. الهدف من السؤال البحث عن محنة العقل في السياسة.

لماذا العقل؟

أ- لأنّنا، وفقاً للاشتقاق الثلاثي في لغة الضاد، إذ نعقِلُ العقلَ، فإنّنا نربطه بفكرٍ دوّار كما الكرة المتحركة، ونصبح كمن يربط الرسغ إلى العضد بالعقال العتيق.

ب- ولأننا إذ نلعقُ العقل لعقاً فكأنّنا نلحسه بالألسنة والأصابع ولن نظفر بطعمه وقيمته بتسهيل فكّ العُقد المُزمنة وبناء الأوطان.

ج- عندما نلقَعُ العقل أي نرميه أرضاً يُصبح وكأنه عشّ من الذباب الأخضر الذي يلسع المواطنين ويتوه بهم.

د- ولأننا عندما نقْلَعُ العقل من جذوره، تُصبح الرؤوس صلبةً يسهل تعدادها وإضاعتها بلا تمييز أو نتائج مثمرة.

هكذا يبدو لبنان للعالم اليوم، مكاناً أو رقعةً الحياة فيها أصعب من الموت.

* ثانياً- كيف نخلّص إذن بتلك العقول المتناقضة الشاردة خارج المعنى وطناً يتأرجح بين الداخل والخارج أو بين الحقائق والحرائق؟

في الجواب كتب الشاعر سعيد عقل في العلاقات اللبنانية السورية منذ رُبَيع قرن:

«للتاريخ... قال الرئيس حافظ الأسد «لا» في وجه اثنين من كبار سياسيّي لبنان... عرضا عليه أن يكون لبنان بلداً واحداً مع سوريا. في اليوم التالي، كرّر تلك «اللا» حاسمةً في وجه أحدهما الذي رجع إليه عارضاً إقامة كونفدرالية بين لبنان وسوريا والأردن.

بهاتين اللاءين التاريخيتين يكون الأسد أضاف دولةً نهائية إلى عقد دول العالم تُقرّ بأنّ لبنان دولة ذات سيادة كأعرق الدول.

وبشأن هذا الأمر بالذات، عمل الأسد أكثر:

.. عاتب (الأسد) سياسياً من لبنان، كان قد قدّم إليه كتاباً ألّفه، على إغفاله في كتابه خبر اللاءين اللتين واجه بهما هذين السياسيين اللبنانيين. قصد الأسد بعتابه، أنهما غاليتان على قلبه تانك اللاءان اللتان جاءتا بحجم الشرف يعتلج في قلب الأسد.

أتصوّر الأسد، الضابط الطيّار، من سبق له أن لاعب الموت هو وطائرته، خلال مهنته كمحارب، راح يقارن بين العرضين وما يردده أفذاذ لبنان من أقوال لعظام العالم فيهم أو في بلادهم. ومنها قول هوميروس أنهم «شعب الآلهة» و«حملة لغة الآلهة». بلى أتصور الأسد قارن بين الأقوال وعرضي رجل السياسة، فوجد العرضين يتناقضان مع لبنان. ما عمل؟ لم يستمهل السياسيين اللبنانيين في أمر الجواب، وإنّما ردّ فوراً بتلك «اللا» التاريخية، وكان يكررها هي نفسها.

من أجل هاتين اللاءين التاريخيتين، أشرك دموعي بدموع الشعب السوري على الأسد، لأقول له الامتنان، لا باسمي وحسب، بل باسمي على أني أنا لبنان. وسأفعل أكثر. نحن شعب واحد في بلدين أو في وطنين، أو شعوب لا تنتهي ذات هوية لبنانية.

غداً، يوم لا يبقى ولا عسكري أجنبي على أرض لبنان، سأقصد سوريا أزور ثلاثة:

القرداحة حيث مثواه هو، والبرلمان ممثّل أمته، ورئاسة الدولة مقرّ خلفه، لأقول في الثلاثة أمكنة.. شكرنا باسم سيادتنا للرجل الذي شهد لكرامة سيادتنا.

خصصت ذلك التصرف التاريخي، يبدر من الأسد تجاه وطني في يومين متتالين؛ لأنه كان تصرّف الرجل الرجل الذي يضاف إلى تصرفات الرجال الرجال».

انتهى مختصر نص سعيد العقل.

وللتاريخ...

فإنّ النص كانت طلبته مني في دمشق قريبتي الأديبة والسياسية كوليت الخوري، شهادة على الزمان الذي كنّا فيه وهو يحتاج إلى ضرب «لا» معاصرة بكلّ أعداد الدول الخارجية في الكرة الأرضية؛ لأن وطننا مشلول وأعناقنا خارج لبنان.

المعادلة الآن هي للتفكير والتأمل مذيّلة بالحوار الداخلي؛ لأنّه أمضى من دعوة دول العالم تتزحلق فوق لزاجة مواقفنا رهن الطلب ومعظم مسؤولينا يدورون فوق طواحين الكهرباء المظلمة أو المياه الناشفة يغمرنا طحين الكلام المعلوك المتكرّر منذ مئة سنة لم ينتج سطراً مفيداً في بناء الغد والسيادة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/54un59nc

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"