ملوّثات الـ «أنا»

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

اشرب قهوتك وأنت تتصفح الصحف الحديثة، صفحاتها كثيرة وكتّابها لا يُحصون، كلٌّ يرسم بكلماته بعضاً من ذاته، من أفكاره وثقافته وأخلاقه أيضاً. كل وسائل التواصل الاجتماعي هي الصحف الجديدة الأكثر تنوعاً وتلوناً، صحف تنشر أفكار وأقوال الناس التي يخطّونها بأنفسهم بمختلف اللغات والمستويات، ومن لا يكتب يكفيه أن يجري جولته القرائية فيستشفّ الكثير مما يخفيه بعض أو كثير من هؤلاء الناس، كلمات خلف الكلمات ومضمون يستر مضموناً.
فئة من الواقفين على تلك المنابر يتحدثون في كل شيء وعن كل شيء، إلا ما تخفيه ذات كل منهم وما يكتمونه في ثنايا الروح، فإطلاق العنان لل «أنا» كي تخرج إلى النور وتتحدث عن حالها سهل وشائع، لكن قبل كل إطلالة يتدخل مبضع الجراح ليجمّل وينمّق فيصبح الإنسان جميلاً مبدعاً متألقاً فاهماً خلوقاً.. بينما إذا طرقت بابه وتأملت أحواله وأحوال أهل بيته تجدك أمام إنسان آخر.
بعضهم يقول على وسائل التواصل الاجتماعي ما لا يفعل في حياته الحقيقية، منهم من تأخذهم الشهامة مثلاً للدفاع عن اللغة العربية ساخرين من «هذا الجيل» لأنه غربي الهوى واللسان، ولا يسلم «الجيل الفتيّ» من الانتقادات بسبب الأغاني والموسيقى التي يسمعها، ويخرج من يستنكر غياب القدوة الحسنة والنموذج المشرّف الذي يحتذي به «الجيل المتهوّر»، ومن ينعى المعلم القدوة ويترحم على معلمي زمان وأخلاق زمان.
جزء مما يقال صحيح، لكن هل سأل نفسه هذا وذاك وتلك، ما أخبار القدوة الحسنة داخل إطار البيت؟ هل تخبره ال «أنا» غير المنمقة وبعيداً عن التجميل والمظاهر، بأن «أيام زمان» كان الأب هو القدوة وكانت الأم هي المثال الأعلى في الأخلاق والتصرفات والصبر والحكمة في القول والتفكير والفعل؟ فهل هو ينتمي إلى «ذاك الجيل»؟ وهل يحسن اختيار ألفاظه ويتسلح بالصبر في تصرفاته أمام أبنائه؟ هل يتخلى عن رعونته ويخفض جناحه ليظلل على أهل بيته فيتحمل ويمتص ويوجّه ويرشد بحب وحنان، أم تأخذه العزة فيرى في أبوته (وأمومتها) سلطة الآمر الذي يجب أن يطاع بلا حوار ونقاش، ويستعجل حرق مراحل النضج فيتوقع من أبنائه استيعاب كل شيء وعدم تكرار الخطأ أو الوقوع فيه أكثر من مرة!. 
ليس سهلاً النظر إلى الذات بكل موضوعية وتنقيتها من ملوثات «الأنا» التي تصيب الإنسان بأمراض متنوعة، بل ليس كل أب وأم على استعداد لمحاسبة النفس قبل محاسبة الأبناء، وليس كل فرد يتردد في الانسياق خلف تهوّره أو غضبه كي يكون القدوة الحسنة والمثال المبهر في نظر أبنائه.
كثيرون يفضلون التجاهل، فالحياة تمشي وتستمر وتمشي معها أحوالهم دون كل هذه التعقيدات والبحث والتعمق والتركيز.. ولكن هل «يمشي الحال» أيضاً حين يتعلق الأمر بالأبناء؟ ولماذا استنكار غياب القدوة عموماً إذا كانت غائبة أو مهملة داخل الأسرة؟.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p99mcp4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"