ميلاد الإنسانية المعذبة

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

كيف يرتسم المكان في الحبر والأذهان؛ إذ يكتبون أو يبتهلون متذكّرين المذود العتيق في «بيت لحم» منتصف الليلة، وكلّ ليلة، في 24 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام؟

سؤال أطرحه ليلة الميلاد كان يستقبلها المؤمنون بسبحاتهم الطويلة، وتمتماتهم الحافلة بالرجاء. أرسمه بقشة فوق مذود لا جمر فيه، وأرى الأطفال ينتظرون فرحين «بابا نويل»، بشعره ولحيته الطويلة البيضاء، وبثيابه الحمراء المزركشة، حتى منتصف الليل. نصف نيام، يحمل الأهالي صغارهم نحو أسرّتهم حالمين بالهدايا الملفوفة تحت الشجرة الخضراء عند الصباح، ويروحون يصفّون الهدايا المصفوفة بسكون تحت الأشجار المضيئة.

صار العيد مهرجاناً كونياً عبر الشاشات والإعلانات والمدن والأسواق والأشجار المزدانة بالكرات الملوّنة في الجادات والطرقات وفوق الأبواب والنوافذ والعربات، والأجراس تقرع في زحمات الجماهير منشطات لحركة البيع والشراء والتجارة في الأرض.

نعم، هكذا تُستهلك المناسبة الليلة باحتفالات وابتهالات لا تنتهي لطفل ولد عارياً في مذود، تبعث الثيران بخوارها الدفء في المكان البارد العاري في بيت لحم، قبل 2022 سنة من قلق الإنسان بجنون البقر وإنفلونزا الطيور وكورونا.

يتآكل الليلة المكان، ويُقضم بالمعاني الوطنية والكونية ليحتفي المولود. هكذا تتحوّل فلسطين النقطة الباقية عبر الأجيال بصفتها تُشارف النشيد العام، بينما يتحوّل المشرّدون في الأرض من كل الأجناس والألوان إلى تمضية العيد ونصب أشجارهم في الدمعة والصور والبحث عن المذود الذي لا حيز له نهائياً بعد فوق سجّادة الأمم.

هم يسبقون العيد بالعيد العالمي الذي خرج من مكانهم وانتشر قارعاً بيوت المسيحيين في العالم، شرقاً وغرباً، ومرتدياً أساطير هائلة من المعاصرة والجشع في المظاهر الاجتماعية التي لم يعرف ملامحها الطفل الأوّل في مذوده العتيق. المفارقة اللافتة أن ساحات العواصم والمدن وزوايا الناس التي تحتضن أشجار الصنوبر الطبيعية والصناعية، وتحتها ابن مريم فوق حفنة من القش اليابس، قد تبقى لفترة شهر، أو أكثر، تُذكّر الناس بأولادهم وأحفادهم الذين سرعان ما يطيرون نحو الخارج كما النحل في الأرض ولأزمنة حزينة طويلة ملفوفة بالدمعة. هذا حال لبنان.

أبحث الليلة، عبر مناسبة طقوسية، في تقديس المكان، أعني القدس، مع أن الأمكنة تختص بكل مجموعة في الأرض تختار حيزاً مقدساً لها، بمناظره ومقاماته وطقوسه منذ التفكير بالصخرة المقدسة التي استخدمها يعقوب وسادة، أعني المكان العالمي الذي حاول إبراهيم التضحية فيه بابنه إسحاق. هذا يذكّرنا بكلام الله أيضاً، إذ قال لموسى: «تقرب من هنا، اخلع نعليك لأن المكان أرض مقدّسة». هذا المكان اختلطت عبره مضامين الأرض والسماء في الدنيا. وبانت أسئلة طويلة بين النصوص والأمكنة أو الأشياء الثابتة، باعتبار أنّ القدّيسين يخرجون من الأمكنة عندما تُصبح أمكنتهم في الأرض كلّها بينما المقدّس قد يسوّي ويرتّب ويظهر في الأمكنة كلّها التي يحددها، أو يقيمون فيها البشر.

صحيح أن الناصري ولد في مذود، لكنّ بيوته عمّت الأرض والأذهان والسلوك بالمعاني الاجتماعية المتعددة. صرنا نجد الكاثوليك حجّاحاً مثلاً إلى مغارة «سانت لورد»، والبروتستانت يخرجون من الأمكنة كلّها نحو «مقبرة غيتسبرغ»، كما نجد المحاربين القدامى يحدّقون بأقواس النصر وقبور الجنود المجهولين والشعلات التي لا تنطفئ منذ كوارث الحربين العالميتين اللتين أورثتا 23 مليون قتيل في عبثية لم تعرف أسبابها ونتائجها حتّى اليوم، والحبل على الجرّار، في الوقت الذي عاد بعض الحنين الى قبر لينين بعدما تحوّلوا مع نهاية الشيوعية الى تجديد مجد القبب متقفّين بذلك خطى دمج السياسة بالدين بحثاً عن عظمة القياصرة.

صحيح أيضاً وأيضاً، أنّ الكعبة المكرّمة، أو الحجر الأسود المكعّب الملفوف بقماشٍ أسود مطرّز نزل على مكّة من السماء، وإذ يطوف حوله الحجّاج المسلمون، فإنّهم يسعون بدورهم جاهدين في الأرض بالمعنى الديني والسياسي والقيمي حاملين تسليم أمورهم لله مباركاً لصحواتهم حيث تزهو الأمكنة في أراضيهم ودولهم وفي الأرض كلّها عند فلش السجادة والتوجّه نحو القبلة والركوع فالصلاة.

يتحاشر المؤمنون حول الأرض كلّها، وهم يلمسون صخرة، أو يمارسون طقوساً. إنّه تحاشر راقٍ يتّخذ مداه العظيم في التلاحم البشري الإنساني لطرد الظلم والقهر والغلبة وترسيخ العدالة والعطاء بين كلمة وأخرى. يخرجون من فردانياتهم الى المجموعة النقيّة القوّية، ليصدح الصمت حاملاً ميلاد الإنسانية المشغولة أيضاً بالفقراء والمحتاجين والبؤساء والمعذّبين والمكسورين والمشرّدين في الأرض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc7kztpa

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"