غالباً ما تفاجئ فترات الركود الجميع، وهناك فرصة جيدة جداً ألا يحدث ذلك في المرة التالية. ويتوقع الاقتصاديون حدوث ركود منذ شهور، ويرى معظمهم أنه سيبدأ في أوائل العام المقبل. وسواء كانت فترة الركود عميقة أو ضحلة، طويلة أم قصيرة، فهي مطروحة للنقاش، لكن فكرة أن الاقتصاد يمر بفترة من الانكماش هي إلى حد كبير وجهة نظر إجماع بين الاقتصاديين.
ويقول مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في «موديز»: «تاريخياً، عندما يكون لديك تضخم مرتفع، ويقوم الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم، فإن هذا يؤدي إلى انكماش أو ركود».
مضيفاً أن «هذا السيناريو الكلاسيكي يؤدي إلى الركود. ولقد رأينا هذه القصة من قبل، فعندما يرتفع التضخم ويستجيب بنك الاحتياطي الفيدرالي عن طريق رفع أسعار الفائدة، فإن الاقتصاد في النهاية يخضع لكفة أسعار الفائدة المرتفعة».
وينتمي زاندي إلى أقلية من الاقتصاديين الذين يعتقدون أن الاحتياطي الفيدرالي يمكنه تجنب الركود عن طريق رفع أسعار الفائدة لفترة كافية لتجنب إخماد النمو. لكنه قال إن التوقعات كبيرة بأن الاقتصاد سيصاب.
يواجه «الاحتياطي الفيدرالي» الآن معركة جادة مع التضخم. ويتوقع زيادات إضافية في أسعار الفائدة، تصل إلى حوالي 5.1% بحلول أوائل العام المقبل، ويتوقع الاقتصاديون أنها قد تحافظ على تلك المعدلات المرتفعة للسيطرة على التضخم.
وقد أثرت هذه المعدلات المرتفعة بالفعل في سوق الإسكان، حيث انخفضت مبيعات المنازل بنسبة 35.4% عن العام الماضي في نوفمبر، وهو الشهر العاشر على التوالي من التراجع. ويقترب معدل الرهن العقاري لمدة 30 عاماً من 7%، وكان التضخم الاستهلاكي لا يزال يسير بمعدل 7.1 في المئة في نوفمبر.
ومن غير الواضح إلى متى سيتمكن صانعو السياسة من الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات عالية.
ويتوقع المتداولون في سوق العقود الآجلة أن يبدأ «الاحتياطي الفيدرالي» في خفض أسعار الفائدة بحلول نهاية عام 2023. وفي توقعاته الخاصة، يُظهر البنك المركزي تخفيضات في أسعار الفائدة بدءاً من عام 2024.
إبطاء النشاط
وبدأت الإجراءات التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي في الشهور التسعة الماضية لإبطاء النشاط الاقتصادي عن طريق رفع الفائدة لكبح التضخم، تنعكس في الأرقام.
فقد كشف مؤشر الاستهلاك الأخير للعام 2022 أن التضخم تباطأ بشكل كبير في تشرين الثاني/نوفمبر في الولايات المتحدة لكن ذلك رافقه تباطؤ في الاستهلاك، مما قد يكون تمهيداً للركود المتوقع العام المقبل.
وحسب هذا المؤشر، انخفض التضخم في تشرين الثاني/نوفمبر إلى 5,5 في المئة خلال عام واحد مقابل 6,1 في المئة في تشرين الأول/أكتوبر. ويريد الاحتياطي الفيدرالي خفضه إلى 2 في المئة.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن في بيان إن «عيد الميلاد يأتي مع هبوط أسعار البنزين وأدنى زيادة في عام في أسعار البقالة» مؤكداً «تفاؤله للعام المقبل»، على الرغم من «التقلبات».
ولم تتجاوز نسبة التضخم 0,1 في المئة على مدى شهر مقابل 0,4 في المئة في تشرين الأول/أكتوبر.
صعوبات العقارات
ويعتبر انخفاض التضخم نبأ جيداً للقوة الشرائية. حتى أن هذا تسبب في انتعاش مستوى ثقة المستهلك أكثر مما كان متوقعاً في كانون الأول/ديسمبر، حسب استطلاع أجرته جامعة ميشيغن، قبل نهاية العام بأسبوع. ومع ذلك ما زالت هذه الثقة منخفضة جداً.
وسمح الاستهلاك محرك النمو في الولايات المتحدة والذي ظل قوياً حتى الآن، لإجمالي الناتج المحلي بالارتفاع بنسبة 3,2 في المئة على أساس سنوي في الربع الثالث، بعد فصلين من الانكماش.
لكن ارتفاع سعر الفائدة يؤثر بقوة في قطاعات محددة لا سيما العقارات.
وأعلن اتحاد وكلاء العقارات أن حجم إعادة بيع المساكن تراجع في تشرين الثاني/ نوفمبر للشهر العاشر على التوالي، للمرة الأولى منذ بدء جمع هذه البيانات في 1999.
ولكن وزارة التجارة أعلنت أن مبيعات المنازل الجديدة سجلت ارتفاعاً للشهر الثاني على التوالي في تشرين الثاني/نوفمبر مما فاجأ المحللين الذين كانوا يتوقعون انخفاضاً.
وقال إيان شيبردسون أحد هؤلاء الخبراء «أياً كان سبب هذه المرونة الظاهرة (...) نشك في أنها ستستمر». وأضاف أنه يتوقع «هبوطاً مفاجئاً في المبيعات في الأشهر المقبلة».
في الواقع، ارتفعت أسعار الفائدة على قروض المنازل منذ بداية العام في إطار تشديد السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم.
وفي 14 كانون الأول/ديسمبر رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة الرئيسي مرة أخرى ولكن بمقدار نصف نقطة فقط، وهي زيادة أقل من الأشهر السابقة ولكنها تبقى أعلى بكثير من نقطة الربع المعتادة.
وحذر من أن الوقت لم يحن بعد للتوقف عن اتخاذ الإجراءات لأنه يريد كسب معركته ضد التضخم بشكل دائم.
والمؤسسة النقدية أقل تفاؤلاً قليلاً مما كانت عليه في أيلول/سبتمبر بشأن مسار ارتفاع الأسعار الذي توقعت أن تبلغ نسبته 3,1 في المئة في 2023 بينما كانت تتوقع في أيلول/سبتمبر الماضي 2,8 في المئة.
وأظهر مقياس آخر للتضخم وهو مؤشر «سي بي آي» الذي تعدل على أساسه المعاشات التقاعدية، تباطؤاً حاداً في تشرين الثاني/نوفمبر، إلى 7,1 في المئة خلال عام واحد مقابل 7,7 في المئة.
وفي عام قاس على الأسواق العالمية، ارتفع الدولار بنحو 9% تقريباً مع رفع الاحتياطي الأمريكي لأسعار الفائدة بشكل حاد لكبح التضخم مما اجتذب المستثمرين مجدداً صوب أصول الدخل الثابت في البلاد.
لكن مؤشر الدولار تراجع بأكثر من 8% منذ أن بلغ ذروة 20 عاماً في سبتمبر/ أيلول بعدما أدى تباطؤ حاد في التضخم الأمريكي إلى تعزيز الآمال في أن ينهي البنك المركزي قريباً دورة تشديد السياسة النقدية.
تقديرات النمو
ورفعت وزارة التجارة الأمريكية، للمرة الثالثة قبل نهاية العام، تقديراتها لنمو إجمالي الناتج المحلي للربع الثالث في الولايات المتحدة، موضحة أنه بلغ 3,2 في المئة على أساس سنوي. وكانت التقديرات الأولى للوزارة تتوقع زيادة نسبتها 2,6 في المئة، ثم راجعتها مرة أولى لتؤكد أنها ستبلغ 2,9 في المئة.
وفاجأت النسبة الجديدة المحللين الذين لم يكونوا يتوقعون زيادة في التقديرات. وبالمقارنة مع الفصل السابق كما تفعل اقتصادات متقدمة أخرى، بلغ النمو 0,8 في المئة مقابل تقديرات ب0,6 في المئة.
وقالت وزارة التجارة إن الاستهلاك المنزلي بين شهري يوليو/ تموز، وسبتمبر/ أيلول، كان أعلى مما كان مقدراً في البداية، وكذلك الاستثمارات الثابتة غير المقيمة.
ورأت الخبيرة الاقتصادية روبيلا فاروقي، أنه «على الرغم من ارتفاع سريع في معدلات الفائدة، يسجل الاقتصاد نمواً والعائلات خصوصاً تواصل الإنفاق». وأضافت «مع ذلك، في المستقبل، في 2023، نتوقع مسار نمو أبطأ، وإن كنا لا نتوقع انكماشاً في النشاط».
وقالت فاروقي إنه «حتى لو تباطأ النمو إلى معدل أقل من الإمكانات» في 2023 «يعني التركيز على خفض التضخم أن المعدلات ستظل أعلى لفترة أطول في العام المقبل».
وسجل إجمالي الناتج المحلي انكماشاً خلال الربعين الأولين من العام، وانخفض 1,6 في المئة، ثم 0,6 في المئة، لكنه لم يصل إلى انكماش حسب إدارة الرئيس، جو بايدن، واقتصاديين. وهم يعتقدون أنه على الرغم من أن هذين الفصلين المتتاليين من الانخفاض في إجمالي الناتج المحلي يتوافقان مع التعريف المقبول عموماً للانكماش، لا تسمح متانة سوق العمل خصوصاً لأكبر اقتصاد في العالم، بالوصول إلى هذه الحالة.
ثقة المستهلكين
وارتفعت ثقة المستهلكين الأمريكيين إلى أعلى مستوى في ثمانية شهور في ديسمبر/ كانون الأول مع تراجع التضخم واستمرار قوة سوق العمل لكن مع بقاء المخاوف من حدوث ركود، مما تمخض عن تقلص عدد الأسر التي تعتزم القيام بعمليات شراء كبيرة في الشهور الستة المقبلة.
وقال سام بولارد، كبير الاقتصاديين في ويلز فارجو في شارلوت بولاية نورث كارولينا «قد يكون المستهلكون أكثر ثقة مما كانوا عليه خلال أشهر الصيف، لكنهم ما زالوا يتوخون الحذر أكثر مما كانت عليه الحال في 2021. توقعات ثقة المستهلك في عام 2023 ستعتمد على قدرة الاحتياطي الاتحادي على تحقيق هبوط سلس على ما يمكن وصفه بمدرج ضيق».
وقالت شركة كونفرنس بورد إن مؤشرها لثقة المستهلكين ارتفع إلى 108.3 هذا الشهر صعوداً، في أعلى قراءة منذ إبريل/نيسان، من 101.4 في نوفمبر/تشرين الثاني. وكان اقتصاديون استطلعت رويترز آراءهم توقعوا أن يبلغ المؤشر 101.0. وركز المسح بشكل أكبر على سوق العمل، لكن انتعاش الثقة يضاهي ارتفاعاً مشابهاً في مؤشر معنويات المستهلكين لجامعة ميشيجان.
وانخفضت توقعات المستهلكين بشأن التضخم على مدى 12 شهراً إلى 6.7 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ سبتمبر/أيلول 2021، نزولاً من 7.1 في المئة الشهر الماضي. وتماشى التحسن الذي يعكس غالباً انخفاض أسعار البنزين مع البيانات الحديثة التي تظهر ارتفاعاً متواضعاً في أسعار المستهلكين في نوفمبر/ تشرين الثاني. وعزز التحسن أيضاً الآراء التي مفادها أن التضخم، رغم ارتفاعه غير المريح، قد بلغ ذروته منذ شهور.
وارتفع مؤشر الوضع الحالي المستند إلى تقييم المستهلكين للظروف الحالية للأعمال وسوق العمل إلى 147.2 صعوداً من 138.3 الشهر الماضي. وصعد مؤشر التوقعات الذي يعتمد على توقعات المستهلكين القصيرة الأجل للدخل والأعمال وظروف سوق العمل إلى 82.4 صعوداً من 76.7.
لكن هذا المعيار مازال يحوم حول 80 وهو مستوى تقول كونفرنس بورد إنه مرتبط بالركود.
ونتيجة لذلك، أصبح المستهلكون أقل حرصاً على شراء سلع باهظة الثمن خلال الأشهر الستة المقبلة. وتغيرت قليلاً حصة المستهلكين الذين يعتزمون شراء سيارة، وانخفضت نوايا شراء الأجهزة إلى أدنى مستوى منذ يوليو /تموز. وهذا أيضاً نتيجة ارتفاع كلفة الاقتراض لأن معظم هذه السلع يشتريها المستهلكون عبر الائتمان.
فقدان الوظائف
وعلى الرغم من فقدان الوظائف في قطاع التكنولوجيا وسوق الإسكان شديد الحساسية لسعر الفائدة، تردد أرباب العمل عموماً في تسريح العمال بعد ما عانوا صعوبات في العثور على عمال أثناء جائحة «كوفيد-19».
لكن في ظل حالة الركود التي يمر بها سوق الإسكان، يعتقد الاقتصاديون أن سوق العمل سيتراجع وسترتفع البطالة العام المقبل. وعلى الرغم من أن سوق الإسكان يمثل جزءاً بسيطاً من الاقتصاد لكن تأثيره أكبر.
وخطط قلة من المستهلكين لشراء منازل خلال الأشهر الستة المقبلة، مما قد يقلص حركة مبيعات المنازل.