زمن «الفكر المقلوب»

00:38 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في نهاية عام وبداية آخر، يحلو للبعض الكتابة عن أبرز الأحداث التي شهدها العام المنصرم، أو التعبير عن توقعاتهم في العام الجديد، هذا يتناول الساحة السياسية الدولية بتقلباتها وتعقيداتها، وذاك يرصد الوضع الاقتصادي، وثالث يركز على التكنولوجيا والعلوم والبيئة..الخ. وتكاد الصورة تخلو من تعليق أو إشارة إلى الحالة الفكرية التي تعاني منذ سنوات تراجعاً حاداً على المستويات كافة.

مع نهاية كأس العالم لكرة القدم انتشر خبر يقول: (حرب خفية ضارية تدور رحاها في العالم الافتراضي..«لايكات» مفاجئة تحصل عليها صورة البيضة الشهيرة والتي كانت تتصدر قائمة الأكثر إعجاباً في تاريخ «إنستغرام»، وذلك بعدما استطاعت صورة اللاعب الأرجنتيني ميسي وهو يحمل كأس العالم تجاوزها). من المفهوم أن يحصل ميسي على كل هذه الشعبية، أما إذا تأمل أي إنسان صورة البيضة، العادية جداً، فلابد أن يسأل نفسه عن سبب شعبيتها؟، لقد أعرب الملايين عن إعجابهم بها، وهنا هل يمكن أن نصف هذه الملايين بالحمقى كما فعل المفكر الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو، والذي رحل منذ سنوات وكان وصفه لرواد مواقع التواصل ب«جيوش الحمقى»، تعليقاً منه على صور ومقاطع فيديو وحوارات اتسمت بالسطحية، ولكنها كانت آنذاك أكثر جدية من مجرد بيضة تخلو من أي شيء لافت أو مميز.

المتابع لمواقع التواصل يعرف جيداً أن نموذج البيضة، واحد من آلاف النماذج الأخرى، التي تتحول إلى «ترند»، وتدفع إلى السؤال عن أسباب رواجها، والملاحظ أن نقد هذه الحالة أو السخرية المريرة التي قد تنتابنا تجاهها يقابلها البعض بالرفض والاستهجان. معظم مؤيدي مواقع التواصل يصفون نقاد تلك المواقع بالنخبويين والمتعالين والمنعزلين عن البشر، والذين يفتقدون القدرة على فهم الواقع الجديد أو التعامل مع أدواته.

الأكثر مدعاة للأسى أن مواقع إخبارية موزونة ووكالات أنباء عالمية معروفة بجديتها وطابعها المحافظ، تلهث أحياناً وراء «الترند»، أي أننا نعيش زمن «الفكر المقلوب»، فتلك المؤسسات المنوط بها احترام العقل والارتقاء بالوعي، وإقناع الآخرين بالحجة والبرهان والمنطق تركض الآن وراء اللاعقل.

لقد كان الهمّ المركزي لدى المفكرين والمبدعين خلال حقب طويلة من القرن الماضي، يتمثل في كيفية الارتقاء بذائقة ووعي الشارع، وكان هناك نقد لاذع لكل منتج أدبي أو فني يتسم بالخفة والسطحية. ما نشاهده الآن مختلف تماماً، فهناك ثقافة جديدة تصعد وتحتل الواجهة.

تحتاج الإجابة عن سؤال لماذا يحظى ما يدور في مواقع التواصل ويتّسم كثيراً بخصام العقل على كل هذه الشعبية؟، إلى حالة من العصف الذهني التي تتطلب قراءة شاملة لمناخ العصر، يشارك فيها علماء نفس وخبراء اجتماع ومفكرون ومثقفون. صحيح هناك قلة من المفكرين تحاول أن تجد لها مكاناً في هذه المواقع، اعتقاداً منها أن الوجود أفضل من الغياب التام، وتتحدث في أمور، معقدة أحياناً، تحتاج إلى جمهور نوعي، ولكن لا يتابعها أحد أو تواجه بتعليقات سخيفة تُفصح عن جهل واضح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4eb73pk5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"