البحث عن الفردوس

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تُودِّع البشرية عام 2022 بأجواء عالمية منتصف الليلة السبت. يرفع حبري مجدداً وكل حبر أصابعه العشرة سلفاً عاجزاً عن رسم تلك اللحظة الفاصلة بين عامين تأسر البشرية رقصاً بين الابتسامات والدموع، والصراخ والاحتفالات والتوقعات، وكأنها فوق الحافة. لا نعرف عدد المتعلقين بأذيال عام سيمضي، لكنني متيقن من أن اللبنانيين هم خارج الموضوع؛ لأن أيديهم ورؤوسهم مقيمة في جيوبهم وفي المستقبل.

لنقل إن عصرنا مُذيل بتوقيع «لوغاريتم»؛ أي عالم الرياضيات والفلك والجغرافيا المكنّى بأبي عبدالله بن موسى الخوارزمي الذي أوصل البشرية اليوم لما يُعرف ب«الذكاء الاصطناعي»، لربما تستعيد البشرية توازنها، لكن قوة الزمان تبقى تتجاوز العقول لفهم البدايات والنهايات.

قالت النظرية الرواقية مثلاً إن العالم سينتهي ب«نار تلتهمه». وبشر الهنود ب«السنوات الكبرى» مع ظهور «سيفا» مطهراً العالم من أدرانه، ومثلهما فكر الباطنيين، وكذلك فكرة «المخلص» عند فارس القديمة أو «ميترا» منظم الكون ومنقذه المعروف ب«الأفشتا» التي ستعود بنيران تلتهم الكون.

وقال بوذا ب«مخلص العالم» بعدما يعم الجور، أو «المدينة الفاضلة» في فلسفة أفلاطون والفارابي، وقال اليهود بمجيء المخلّص في العهد القديم، وعودته آخر الأزمنة عند المسيحيين..

تسوّق هذه الأفكار والمعتقدات عندما تقف البشرية على تخوم الزمان المحكوم أبداً بالبدايات والنهايات، والولادة والموت والأسئلة الكثيرة التي أقلقت وتُقلق البشر، ومستقبلهم وتستدعي ماضيهم في كل لحظة.

أمسِ كنت أحاضر في الجامعة وقلت إن البشرية عبرت أهوال الألفية الثانية، لكن جروح القارات الخمس تضخّمت بفعل كوارث المناخ والأوزون والتلوث، وصراعات العظمة الدولية على تفريغ الأرض والمحيطات من الغاز والنفط، إلى صناعات العنف والجرائم والأمراض و«الإرهاب» وأسلحة الدمار الشامل الجرثومية والكيماوية والنووية التي تتردّد على الألسن العظيمة عبر شاشات العالم، وتجعلنا نتصور وكأن البشرية والدنيا مجدداً في الميزان، وكأن مشهد 13 بليون إنسان يدبّون فوق سطح الأرض، ينتظرهم القرن 23 المرعب، حاملاً جدل اليوم الأخير ونهاية الكون، وتتسابق الدول ووسائل الإعلام فتروّج لآخر الدنيا أمام حفافي الأرقام.

ليس جديداً، هذا التبشير الملازم لوجود الإنسان وقد اعتُبر من مغذّياته الأسطورية بأشكاله القديمة والحديثة. هكذا سيبقى الإنسان يعتبر الدنيا فردوساً مفقوداً أضاعه نتيجة ذنوب اقترفها.

إننا وكأننا نعاين بين عام يمضي وعام يصل، ملامح اليوم العاصف نودّع فيه ديمقراطية النزاعات والحروب المتفشية تهديدات مقيمة تحت وسائد زعماء العالم وفي رؤوسهم، وكلها تدفع الدنيا نحو ترسيخ ما يمكنني تسميته باستراتيجيات الإعمار والانهيار، حيث تدنو لحظة الحساب الفاصلة المجبولة بالآلام والآمال، والتي يمكن تجاوزها بفرح عبر الإيمان وتذكيرنا أيضاً ب:

1 نهاية العالم المذكورة في آيات من القرآن الكريم. المسلم هو الذي يُسلم أمره لله والمؤمن باليوم الآخر الذي سيُطبق على العالم. تتزاحم الأحداث التاريخية مع الظواهر الكونية التي تجعل الناس يتذكرون ويركنون لما سيرافقهم: «فإذا نفخ في الصور..» تزعزع النظام الكوني وفزع من في السموات ومن في الأرض، ومارت السماء، وانشقت وطمست النجوم، وانكدرت، وكوّرت الشمس، وانشق القمر وخسف، وجمعت الشمس والقمر، وطويت السماء ورجّت الأرض، وسيرت الجبال.

2 وكذلك في العهد الجديد أيضاً عندما سأل بطرس في زقاق: ما علامة.. نهاية العالم؟ أجاب: «ستقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتحدث مجاعة وزلازل في أماكن كثيرة.

وعلى إثر الشدة تُظلم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع قوات السماوات.. وينال الأمم كرب في الأرض وقلق من عجيج البحر وجيشانه، وتُزهق نفوس الناس من الرعب».

متى وكيف يتم ذلك؟

قال: «ما من أحد يعلمها!».

«كونوا مستعدين إذن.. احذروا واسهروا، لأنكم لا تعلمون متى يحين الوقت.. واحذروا أن يُثقل قلوبكم.. القصوف وهموم الحياة الدنيا، فيباغتكم ذلك اليوم كأنه الفخ يُطبق على وجه الأرض كلها».

جعلها الله سنة طافحة بالإنجازات والخير والإيمان والتواضع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/58rsbery

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"