سؤال اللغة والثقافة

01:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

إذا كانت الثقافة والتاريخ ركني الهوية الأساسيين، فإن اللغة تترك آثارها في الهوية، لأنها تعمّق من وجود الإنسان وانتمائه، ولذلك يُقال إن الأدب هو مرآة الشعوب التي ترى فيه نفسها ويتم التعبير عن هويتها وكينونتها، ولا أدب دون لغة مثلما لا ثقافة دون لغة، فهما يتماهيان في علاقة عضوية تتمظهر فيه الهوية من خلال الثقافة وتتجلى فيه اللغة بأبهى صورها. وهكذا فإن الوشائج تكون قوية بين اللغة والثقافة والهوية، وبقدر ما تسهم اللغة في تكوين الهوية، فإنها تنطلق من الثقافة وتندغم فيها وسيلة للتعبير والتواصل والتفاهم والمشترك الإنساني.

واعتبر ميشيل فوكو المفكّر الفرنسي في كتابه «الكلمات والأشياء»، اللغة أصواتاً بشرية دالة على معانٍ عقلية ثابتة في الأشياء ترتبط بها من خلال إشارة وعلامة وصورة وحركة. وبهذا المعنى فاللغة نتاج اجتماعي لملكة اللسان، إضافة إلى أنها تقاليد اجتماعية وأنظمة تتحقق من خلال التنشئة الاجتماعية للإنسان المتكلّم وعلامات دالة أيضاً تظهر في الكلمات والجمل والنصوص التي يستخدمها، أي عبر الصورة السمعية التي هي انعكاس للفكر.

وبالطبع فلكل لغة نظامها الداخلي المعقّد الذي يحتاج إلى معرفة ونسق ينتقل من الكلمة والنحو إلى الجملة فالنص في إطار هارموني يزداد تأثيراً كلّما كان محكماً ودقيقاً في التعبير، خصوصاً حين يعكس «الوحدة اللغوية» جمالياً، ولكل مفردة في ذلك وظيفة وموقع ودلالة ورمزية.

واللغة لدى أي متكلّم تعبّر عن غرضين، أحدهما بلاغي (أي القصد منه) والثاني تبادلي أي إشراك المتلقي في سياق أفكاره، الذي يتلقى الكلام ويستنتج الغرض منه ويعتمد على ما هو متبادل من مرجعية ثقافية مشتركة.

وبقدر ما تكون اللغة وسيلة تعبير عن الهوية وانعكاس للثقافة، لا سيما بوجود مشتركات تاريخية واجتماعية وثقافية تمثّل عناصر تعايش وتوافق وتواصل، فهي في نهاية المطاف منتج بشري إنساني يتعزز بالتفاعل ويغتني بالتراكم، خصوصاً بنشوئه في بيئة مشتركة. تلك هي وظيفة اللغة في التعبير عن الانتماء للجماعة البشرية المعينة، وهي تعبير عن خصوصية الفرد وموقعه في هذا الانتماء أيضاً.

والثقافة تعني ذلك المجموع الذي يتألف من المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والأعراف والقوانين والعمران وطريقة العيش وكل ما أنتجه الإنسان. وحسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» فالثقافة تمثّل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية (اللغوية) والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية محددة، وهي تشمل الفنون والآداب والمعتقدات.

وثقافة أي مجتمع مثل هويته ليست مغلقة أو نهائية بمعنى سرمدية، وإنما تتأثر بالآخر مثلما تؤثر فيه، لاسيما في العادات والتقاليد والفنون والآداب والأذواق، وهكذا تصبح قابلة للإضافة والحذف والتعديل، فالهوية والثقافة فضاءان مفتوحان متفاعلان مع محيطهما الداخلي والخارجي، وهما ليستا بركة راكدة، وإنما بحر مترام الأطراف تصب فيه أنهار عديدة تستوعبها الثقافة الأصيلة وتعبّر عنها بهويتها الحيوية.

والثقافة مثلما هي الهوية واللغة تتطور مثل أي كائن اجتماعي من خلال الفكر والسلوك والتراكم وهي تتغيّر ببطء شديد، خصوصاً بتعاقب الأجيال والمراحل والحقب الزمنية؛ بحيث تكون قابلة للتعديل بسبب تواتر الاستخدام والوعي بأهمية ذلك. وكل ثقافة مثلما كل هوية ولغة نسبية وليست مطلقة حتى وإن سادت لزمن طويل، إلا أنها ستكون مثل غيرها عرضة للتغيير والتجديد أيضاً من خلال سلوك الجماعة مثلما تكون الثقافة الأكثر تأثّراً باللغة، خصوصاً من خلال الكتابة؛ حيث تقوم بدور الوساطة لنقل الثقافة.

إن جدل اللغة والثقافة ليس بين طرفين متناقضين أو متعارضين، وإنما بين طرفين يتكاملان ويتحدان في اتساق متناغم بموسيقيته الخاصة، يسهم أحدهما في إغناء الآخر.

واللغة هي نتاج تطور الإنسان وفكره ومستوى تفكيره ونمط حياته، وهو ما نطلق عليه الثقافة، فالثقافة تقوم على عملية بناء لقيم تتشكّل منها كلمات ومفردات وجمل ونصوص لها دلالات تنم عن وعي وسلوك من داخل اللغة ومن خارجها.

الثقافة قوة ولا ثقافة دون معرفة، والمعرفة سلطة مادية ومعنوية، خصوصاً عندما تتشرّب بها شعوب وأمم، وحسب تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، فإن المعرفة قوة بذاتها تحتاج إليها السلطات الحاكمة وتوظّفها أحياناً بطريقة إيجابية أو سلبية، وإذا ما اتحدت سلطة المعرفة مع سلطة الدولة سنكون أمام الحكمة، وتلك فضيلة مثل هذا الاتحاد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2z3yzwkk

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"