خروج الجمهورية من جلدها وجليدها

00:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

دار نقاش بين مجموعة من الشابات والشباب من طلابي الجامعيين في الدراسات العليا وبناء على إلحاحهم حول «معضلة انتخابات رئيس الجمهورية اللبنانية» المحكومة بالتنافر والتعطيل وتداخلات الخارج بالداخل عند كل استحقاق. من الأسئلة اللافتة التي طُرحوها ونُوقشت:

لماذا ينحني رجال السياسة تقديراً عند مصافحتهم الخارج من رؤساء الدول والسفراء وكذلك رموز السلطات الدينية المتنوعة المذاهب والمواقف في الداخل والخارج؟

لماذا يتعقّبون رموز السلطات القضائية لإطلاق سراح موقوف مجرم أو سارق، مع أن القضاء سلطة مستقلة في الأنظمة الديمقراطية؟

لماذا يتدخّلون بهدف إنجاح طالبة أو طالب أو حتى تسجيله في الجامعة خارقين القوانين الجامعية لأغراض طائفية وعائلية بغيضة؟

جاء السؤال الأهم والمفاجئ: لماذا تتغير المواقف والتصريحات وتتبدّل الدساتير وتصل إلى حدود الاعتراض الدبلوماسي عند التفكير بانتخاب قائد الجيش أو قائد «المؤسسة الخضراء التي تعني الانضباط بمعنى النظام والترتيب وضمان الحماية والمستقبل» كما ورد حرفياً على ألسنة الطلبة بالإشارة إلى قائد الجيش الحالي الجنرال جوزاف عون؟

لنقل إن بوناً شاسعاً ملحوظاً بين الصمت العسكري البليغ والكلام السياسي والإعلامي الكثير المرتجل في لبنان اليوم وكأنه مزروع في الألسنة في هذه الفترة المُعقّدة الحرجة التي يُطرح فيها قائد الجيش رئيساً، مع أن الرجل لم يُقدّم ترشيحه بعد ولم ينبس عسكري بالموضوع بصراحة ووضوح. والمعروف أن القائد الحالي نأى بالمؤسسة العسكرية بشكل صارم ولافت عن كل التدخلات الموروثة في أعقد مرحلة من تاريخ لبنان، بينما نرى أو نسمع اللبنانيين، بالمقابل، ينادون أي جندي عند حاجز أو في الطريق ب: «يا وطن» وهي مناداة صادقة تعبّر بوضوح عن رغبات الشعب اللبناني الباحث عن الخلاص.

تمحورت مداخلتي للشباب بأننا لم نبحث بعد بعمق وصدق وصفاء العلاقات بين البصمات العسكرية والسياسية في تاريخ لبنان. وأضفت بصفتي الاستشارية في «الدفاع الوطني» منذ 33 سنة وكنت في عداد نخبة أكاديمية فتحت النوافذ والأبواب الموصدة بين المجتمعات الجامعية والعسكرية، وصولاً إلى: «شباب لبنان».

والحقيقة أن عند المحن واليأس العام، يتجاوز الحس الشعبي العام الحس السياسي الخاص لأن المواطنين هم في قعر اليأس من ملامح الغد وهم يجهدون بحثاً عمّن يصون بقايا وطنهم ويحميهم.

يشكو اللبنانيون زمناً يسحب ما تبقى من أموالهم وأشيائهم القليلة من جيوبهم وهم يتأهّبون واقفين للنشيد الوطني في وطنهم المُتخم بالسادية ترميهم في حفر لا قرار فيها بين جوعهم وتخمة حكّامهم والمصارف وبذخ المهاجرين.

باختصار: عرف اللبنانيون أربع رؤساء لجمهوريتهم خرجوا من قيادة الجيش: فؤاد شهاب (1958) العلامة الفارقة في نهضة لبنان وبناء الإدارة اللبنانية. انتهت شكلاً عندما أمر مرافقه بأن يُعمّق الحفرة في الحديقة الصغيرة المحاذية لمنزله المتواضع في جونيه ويطم فيها أوراقه وملفاته ومذكراته الخاصة خلال حكمه. أمره بحرقها ودفنها بالتراب ماحياً ولاية عظيمة تسكن أذهان اللبنانيين، لكن المُحزن أن تلك الأجيال الحاكمة ممّن أسماهم شهاب «آكلة الجبنة» يستمرّون عبر توريث السلطات وتبادلها.

ارتبطت تجربة قائد الجيش ميشال عون الذي لم يصبح رئيساً بعدما سلّمه أمين الجميل قصر بعبدا وأسماه «قصر الشعب». كانت المادة 49 من الدستور اللبناني تسمح بانتخاب موظفي الفئة الأولى رؤساء جمهورية، لكنّ «تمرّد ميشال عون ورفضه للطائف» كما كان يُردّد الرئيس حسين الحسيني، أنهى وجوده في قصر بعبدا عام 1989 منفياً إلى باريس، وتم تعديل منطوق المادة 49 عينها في الدستور الجديد المنبثق من اتفاق الطائف لتبقى ولاية رئيس الجمهورية 6 سنوات، لكن لا يجوز انتخابه مجدداً بانتهائها إلا بانقضاء 6 سنوات أخرى. ونصّت كذلك على عدم وجوب انتخاب القضاة وموظّفي الفئة الأولى وما يعادلها في الإدارات والمؤسسات العامة إلا بعد انقضاء سنتين على استقالتهم أو إحالتهم إلى التقاعد.

جاء انتخاب إميل لحّود رئيساً، بتعديل النواب للدستور لمرة واحدة فقط، خلافاً للمادة 49 المعدلة. وبسبب الفراغ الدستوري والشغور الرئاسي مع انتهاء ولاية لحود انتُخب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية واستند المجلس النيابي إلى اجتهاد دستوري ملغياً المادة 49 بسبب تخطي زمن انتخاب الرئيس دستورياً؛ حيث لا رئيس موجوداً في قصر بعبدا، فلا ضرورة إذن لاستقالته من منصبه قبل سنتين من انتخابه.

يسأل شباب لبنان اليوم: ما الذي يحول من تكرار التجربة نفسها اليوم: إما بتعديل الدستور لمرة واحدة فقط كما حصل مع لحّود، أو عبر اجتهاد دستوري كما حصل مع سليمان، لا سيما أن الشغور الحالي بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون ثقيل ومُربك، ولا أحد يعرف من ومتى يخرج اللبنانيون الجمهورية من جلدها وجليدها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2x6t7jcw

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"