ألمانيا.. التاريخ والدولة القومية

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

فلسفة التاريخ هي أكثر أجزاء فلسفة هيغل شيوعاً بين الشعب الألماني، وهنا نجد أنه يمجد الدولة لأنه يرى أن الدولة هي الكائن الاجتماعي الأكبر، ويرى أن الإنسان لا يصل إلى الحرية الحقيقية إلا عن طريق الدولة، حينما يعيش الإنسان القانون، بمعنى المشاركة في الروح الجماعية، أي روح المجتمع ممثلة في الدولة، لكن مثل هذا الوضع لم يكتمل، وبدأ يتفكك في التاريخ الكلي الحقيقي لألمانيا الاتحادية.

إن كل حدث من أحداث التاريخ إنما يجري وفقاً لمقتضيات المصلحة، ما يحدث اصطدامات بين الأنظمة القائمة وفئة من المجتمع التي تريد أن تصوغ الواقع على صورة حرية الروح للأمم الجرمانية، ما أدى إلى محاولة الاضطرابات التي حدثت في ألمانيا، الأمر الذي يكشف حجم الهوّة، وحجم الخلاف في البنية العميقة للدولة الألمانية.

لقد بدا الأمر كأن ألمانيا ليست دولة من دول العالم المتقدمة، وليست رابع قوة اقتصادية عالمية، وليست دولة ديمقراطية راسخة تتبادل فيها الأحزاب مقاليد السلطة. بل بدا أنها دولة تعاني انفصاماً بين ما يمكن تسميته طبقة حاكمة، وبين فئة محددة من الشعب. وهذه المشكلة خبت تحت الرماد لسنوات طويلة تحت ستار من الدعاية المضللة والأحاديث الوهمية عن رسوخ الديمقراطية في هذا البلد.

الواقع يؤكد دائماً أن الحاضر هو امتداد للماضي، وما حدث بالأمس كان سبباً رئيسياً في تشكيل الحاضر، وربما يغير وجه المستقبل، ورغم أن ألمانيا نجحت في أن تكون قوة اقتصادية عالمية، لكنها فشلت في تخطي تاريخها، خلاف فرنسا وبريطانيا، إذ نجحتا في ترسيخ مكانتيهما، من خلال قرون طويلة من الاستقلال الناجز، لكن ألمانيا، لم تنجح، كغريمتيها، في تحقيق ذاتها؛ بل فرض عليها الآخرون المنتصرون إرادتهم في الحربين العالميتين اللتين وقعتا بسبب ألمانيا.

وكانت ألمانيا مقسّمة على مساحتها إلى ثلاث مجموعات: الأولى مكونة من دولتين كبريين، هما: النمسا وبروسيا، والثانية تتكون من خمس ولايات متوسطة المساحة هي: بافاريا، وفورتمبرج، وبادن، وسكسونيا، وهانوفر. وأما المجموعة الثالثة فتتألف من عدة ولايات صغيرة، وثلاث مدن هي: همبورغ، وبريمن، ولوبك. وقد حملت بروسيا الزعامة الألمانية لتكوين الوحدة الألمانية الكبرى.

وكانت هناك دولتان تفرضان هيمنتهما على الولايات والمدن الألمانية، وهما: النمسا وفرنسا. ولم تفكر النمسا في تكوين دولة ألمانية واحدة، لأنه كان يغلب على أسرة هابسبرغ الحاكمة فيها الطابع الديني المحافظ، أما فرنسا فكان من مصلحتها أن تبقى ألمانيا مجزأة لكي يسهل عليها حكمها. وبعد أن نجحت بروسيا في الانتصار على النمسا في معركة «سادوا»، لم تشأ أن تعمل على إذلالها، بل تصالحت معها لكي لا تتحالف مع غريمتها فرنسا، وبالتالي فقد ضمنت بروسيا حياد النمسا، وتصاعد الخلاف بين بروسيا وفرنسا حتى وقعت الحرب بين الدولتين عام 1870، واستطاع الألمان الانتصار على فرنسا بعد عام واحد، وأعلنوا قيام الإمبراطورية الألمانية. لكن هذه الدولة الكبيرة الجديدة التي ولدت في قلب أوروبا قد استفزّت بريطانيا التي كانت أخضعت دول أوروبا لسيطرتها، فنهضت من جديد لقتال ألمانيا، وتقاربت مع فرنسا وكونت الدولتان حلفاً راسخاً بينهما وتقاربت ألمانيا مع النمسا، وصار هناك محوران متقابلان، فكانت الحرب العالمية الأولى التي خسرها الألمان، ومن ثم الحرب العالمية الثانية التي خسروها كذلك، لكنهم خسروا معها هذه المرة استقلالهم من خلال تقسيم المانيا إلى أربعة أجزاء بعدد الدول الأربع المنتصرة (الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا).

إن ألمانيا الحالية التي خسرت الكثير من أراضيها ومصانعها وشبابها، لا تزال تتطلع إلى الانتقام ممن سلب ثرواتها. وإذا كانت السلطة الحاكمة منسجمة في مواقفها مع مواقف الدول التي ساهمت في تدمير ألمانيا في الماضي، فإن الشعب، أو قسماً كبيراً منه يرفض ذلك، وهذا ما أفسح في المجال لظهور تيار ألماني كبير بات يعرف باسم «مواطني الرايخ»، وهؤلاء لا يعترفون بالجمهورية الألمانية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. ويقولون إن هذه الجمهورية ليست سوى كيان إداري خاضع للقوى الغربية المتمثلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ويرون أن ألمانيا يجب أن تتحرر، ولهذا يعتبرون أن الإمبراطورية الألمانية لم تزل قائمة منذ أن تأسست عام 1871.

ورغم فشل محاولة «الانقلاب»الأخيرة، لكن ما هو قادم ربما سيكون أعظم، بعد أن أعلنت السلطات الألمانية مؤخراً،أن عدد أعضاء الحركة يقدر بنحو 21 ألفاً، وأن المجموعة كانت تنوي إنشاء ذراع عسكرية لها بهدف تفكيك الهيئات الديمقراطية، وتنصيب الأمير هاينريش كزعيم جديد للبلاد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ve52ac4r

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"