مثلث نهضة العرب المعاصرة

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

هل غدا البحث عقيماً في الإحاطة بفرضيات التقدم السريع واعتناقها عبر تزاوج الحضارات المعاصرة، وتداخلها وتلاقح الثقافات واللغات، بما يقرّب بين شعوب العالم ونهضتها في عصر الفضاء؟

نعم على الأرجح. انحسرت الجغرافيا حواجز تواصلية تقليدية، لتنهار الحدود بين الدول والشعوب، فتتفشى التفاعلية والحداثة وسمة المعاصرة من دون جهود بحثية عقيمة ومنعزلة عن العالم، خجولة معقّدة. تقيم الحداثة في تحديث مجتمعاتنا، وتُقيم فينا ومن حولنا، ويخجل اليراع للإمساك بنا، لوصفها ونحن منها وفيها.

عندما أطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فكرة قيادة المرأة للسيارة، وضع العالم أذنيه يسترق الخبر، وكانت حلقة نقاش أكاديمية جاءت حصيلتها نصاً في صحيفة «الخليج» عنوانه: «أوّل الغيث». جاء هذا في بدايات المسار المتقدم بخطى وثيقة وفق استراتيجيات التحديث والحداثة في عالم نقيم فيه ويُقيم فينا، بما يتجاوز الحواس الخمس والمشاركة بهطول التحديث.

لطالما شغلني تساوق الزمان بين ماض وحاضر ومستقبل في المسار العربي العام. لم يكن بإمكاني أن أُفهِم زملائي في السربون مثلاً، على الإطلاق، قواعد لغتي العربية الأم، بعدما تعلّمنا وعلّمنا أن «كان وما زال وما برح وما انفكّ..إلخ» تعني الماضي بكلّ أثقاله، وهي من أخوات أصبح بمعنى الحاضر أو المستقبل المثقل بالمتغيّرات. كنت أعجز عن إقناع أستاذي المستشرق أندريه ميكال المتوفى في 27 المنصرم، أن «كان» و«أصبح» ولدا معاً من رحمٍ واحد مع أنّ المسافات شاسعة وقويّة بينهما إلاّ بنظرتنا الجامدة إلى الماضي بصفته الرحم الأوّل الحاضن للحاضر والمستقبل ولو بدت المسافات في العالم في ضمور سريع ومذيّلة حكماً بعظمة التطوّر والتغيير.

أعترف بالإقامة الغنيّة بين مثلّثين: تشغل زوايا المثلّث الأوّل بيروت ولندن وباريس، أمّا المثلّث الثاني الذي يشغلني بزواياه الثلاث: السعودية والإمارات العربية المتّحدة ودبي، وقطر، وغيرها، كما يشغل أجيالنا ويجذبها بقوة أكبر يسهل معاينتها في أحرام الجامعات، بتقدير الأشكال والمضامين والسلوك والرؤى المسكونة بالتغيير والحركة في أرجاء الكون والفضاء.

هكذا تبرز دينامية جديدة وجذابة للأجيال العربية في متغيرات ارتباط الماضي بالحاضر التي يصرخ بها شباب العالم اليوم، وتعني بذكاءٍ الحكّام الشباب العرب الواعين لحركة الزمان والمكان والإنسان في القرن الذكي، ووراءهم يلهث الباحثون كما الأجيال الشابة بسعادة ولذّة مطلقة، فرزاً لمظاهر الحذف والإلغاء والتجديد والتطوير ومقولاتها ومظاهرها في أرجاء العالم العربي. قد يتصور البعض من البالغين للوهلة الأولى أنهم أسرى فرضيّات نظرية قديمة، أو قناعات دينية ثابتة، لكن سرعان ما تجذبهم المكتشفات والعناصر المتيسّرة للجميع، وهي أمور ليست بحاجة مطلقاً إلى أبحاث أو جهود لإثباتها، بقدر التصميم، لأنّ الخبرة باتت تتقدم المعرفة، خصوصاً الخبرات التقنية عنوان العصر التي لن يتجاوزها أي بحث، وهو حتماً لا يضاهيها، ولا ضرورة لأن يلحق بها. وفي هذا وجه أساسي، ربما، من وجوه الريادة في طرح موضوعنا، كما في صعوبة انتفاء الصلات المتنامية الجامدة بين الأمس واليوم.

كيف؟ إن الكشوفات وليدة الأبحاث المقننة الدقيقة والدراسات والفرضيات والتجارب التي تسبقها دائماً، لتعمّ مختبرات الأرض بسرعاتٍ هائلة. كان يمكن للعقل البشري التعثّر بفهم تعقيداتها وأسرارها، لكن «غوغل» لو ذكرناه كمثال بسيط، نراه قطع بالبشرية وباللغات كلّها أشواطاً تأكيداً لهذه المقدرات، أو إثبات نتائجها.

صحيح أنّ المعاصرة قد تولّد هوة بين آباء أدمنوا ثبات الزمان وبساطته الرتيبة، وأبناء أدمنوا عصر المبتكرات المسكون بهاجس الثواني والدُّرجة والتغيير والتيسير فقصرت المسافات بينهما، بما لم يحصل، أو ندركه في أي زمنٍ مضى. هناك غياب شبه كامل للقيم والنظريات والأفكار التي تقوم عليها تقنيات المعرفة، مقابل عودة سريعة وسهلة لاستعمال الأدمغة والأفكار والأصابع لتحريك العالم وكشفه وتغذيته كشفاً، والتواصل معه كأنه خيمة بسيطة. هذه المسائل هي نقاط الارتكاز في دوائر فرض صفات العلم المعاصر ذي الهوية الكونية في اللغة والاعلام والعلوم الانسانية، لكنها للغرابة، دائرة تبدو في حال من التفكك والخروج نحو اللوغاريتم وسلطات الأرقام لإثبات صدقيّتها وموضوعيّتها.

هكذا تسحب، إذاً، دورة الزمان العالمية الشباب نحو الحكم والحكومات، تحقيقاً لحمل هوية الإنتماء إلى اللحاء البشري المعاصرالغني بكلّ ما تُقدّمه التحوّلات الجذرية عبر تقنيات ولّدت، وتولّد مناخاً انقطاعياً شبه غامض بين الحاضر الذي قد يبدو ماضياً في بعض المجتمعات قبل أن يولد، أو حتّى أثناء ولادتهن لأنّ المستقبل يحضّ الأزمنة كلّها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ub9h4w9

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"