الحنين إلى تيتو.. عبدالناصر وعصره

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

كأن يوغوسلافيا السابقة تطالع وجهها القديم في شريط وثائقي. لم تُخفِ مخرجته «ميلا تورا جلك» حنيناً غامراً إلى الزعيم اليوغوسلافي الراحل «جوزيب بروز تيتو».

كادت أن تسأل في كل استدعاء للوثائق المصورة: هل نسينا تاريخنا حين كانت عاصمتنا بلغراد مركزاً لإعلان «حركة عدم الانحياز مطلع ستينيات القرن الماضي.. تتحدى القوى العظمى.. تلهم وتقرر»؟

طرحت سؤالها على وزير خارجية سابق، عاين بنفسه تلك الأيام دبلوماسياً شاباً بمقر بعثة بلاده في الأمم المتحدة.. وكانت إجابته بكل أسف وحزن: نعم!

إذا ما طرحنا السؤال نفسه على الذاكرة الوطنية في مصر، التي قادت مع يوغوسلافيا والهند حركة عدم الانحياز، وتحملت أكثر من غيرها مسؤولية دعم وإسناد حركات التحرر الوطني، فإن الإجابة لن تختلف كثيراً.. «نعم نسينا!».

إذا ما طرح على الذاكرة المعتلة سؤالاً بديهياً: «من يستحق أن يوصف بالبطل الأول في معركة تصفية الاستعمار، التي استقلت بموجبها القارة السمراء وامتد إلهامها إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، فإن الإجابة التي يصعب أن ينازع فيها أحد.. «إنه جمال عبدالناصر».

بتعبير الزعيم الإفريقي «نيلسون مانديلا» فهو:«زعيم زعماء إفريقيا».

لم تكن مخرجة الشريط الوثائقي قد ولدت عندما أعلنت في بلغراد حركة عدم الانحياز، لكن قوة الحنين إلى سنوات المجد استدعت صورة «تيتو» إلى الذاكرة.

في استنتاج رئيسي ورد بالشريط الوثائقي، الذي لم يتسنّ أن يعرض حتى الآن في بلغراد نفسها، فإن أحد دواعي تفكيك يوغوسلافيا وجرها إلى مستنقعات الدم عقابها بأثر رجعي على الدور الذي لعبته في تأسيس حركة عدم الانحياز وتحدي الغرب في سنوات الحرب الباردة.

خلل البنية الداخلية هو السبب الرئيسي لما جرى من تمزقات واحترابات عرقية دامية، لكن فكرة الانتقام شبه مؤكدة ونالت قيادات ودول أخرى على رأسها مصر.

في عام (1966) جرى التخلص من الزعيم الإندونيسي«أحمد سوكارنو»، أحد القادة الكبار في حركة عدم الانحياز، بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأمريكية، وجرى تخلص مماثل من الزعيم الغاني «كوامي نكروما»، الذي ترجع إليه أكثر من غيره فكرة «الوحدة الإفريقية».

في ذلك العام أبلغ وزير الخارجية الباكستاني «ذو الفقار علي بوتو» الرئيس«عبدالناصر»:«أرجوك أن تعرف أنهم خارجون لاصطيادك يا سيدي». كان التخلص من«عبدالناصر» على رأس الأولويات الأمريكية في إدارة «ليندون جونسون».

كان الوصف الأمريكي لعملية (1967) دالاً على أهدافها:«اصطياد الديك الرومي»، الذي يتيه بقيادته لحركات التحرر الوطني وتصفية الاستعمار.

باليقين فإن الهزيمة العسكرية تعود بالمقام الأول لأخطاء جوهرية في بنية النظام، لكن استبعاد فرضية الانتقام تجهيل بالتاريخ كما جرى فعلاً.

بعد رحيل «عبدالناصر» اشتدت حملات الانتقام لتصفية إرثه التحرري والاجتماعي. في سنوات الصعود والمجد احتلت مصر مكانة دولية مؤثرة كأحد المراكز الفاعلة في النظام الدولي، التي لا يمكن تجاهلها، وكانت قيادتها لحركة عدم الانحياز تعبيراً عن مدى نفوذها في العالم الثالث.

الشعوب لا تعيش على التاريخ، لكنه قد يلهم فكرة الإرادة والقدرة على التغيير واكتساب المكانة.

وقد كان الانتقام من إرث «تيتو» مروعاً، لكنه انتظر حتى رحيله في (4) مايو (1980). لم يكن زعيماً عادياً، قاد المقاومة المسلحة ضد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وحّد بلاده، ولم يقبل معونات من الغرب، أيّد الثورة الجزائرية بكل ما يملك من قوة ودعم الجيش المصري أثناء حرب (1973) بمئة دبابة.

اختير يوم واحد في التاريخ لبناء الشريط الوثائقي، ما جرى قبله وبعده. إنه يوم إعلان حركة عدم الانحياز من بلغراد.

المشاهد مهيبة، القادة يحاكمون الإرث الاستعماري، وآلاف المواطنين في الشوارع المحيطة، يتابعون مجريات المؤتمر عبر أجهزة الراديو. بلدهم يصنع التاريخ والعالم الثالث يتوحد في طلب استقلال القرار الوطني.

فكرة عدم الانحياز تعود إلى رئيس الوزراء الهندي «جواهر لال نهرو»، «عبدالناصر» أعطاها الديناميكية وعمقها الإفريقي، و«تيتو» أضفى عليها امتداداً أوروبياً له وزنه وتأثيره.

كانت العلاقة بين«تيتو» و«نهرو» متحفظة إلى حد كبير، فيما ربطت «عبدالناصر» و«تيتو» علاقة دافئة منذ اللحظة الأولى، كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن طويل، كما يقول«ستيفان لابودوفيتش» المصور التلفزيوني الخاص الذي احتفظ بأرشيف «تيتو» وتابعه إلى كل مكان ذهب إليه، وغطى الثورة الجزائرية ووثق لها بطلب من«تيتو» نفسه.

بعض ما احتواه الشريط الوثائقي من صور وتسجيلات لم يسبق لأحد في مصر وعالمها العربي أن أطل عليها، أو وصل إلى علمه أنها محفوظة في أرشيف مهجور.

بدت تغطيته لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مطلع الستينات، التي حضرها «تيتو» و«عبدالناصر» و«نهرو» و«سوكارنو» و«نكروما» و«فيدل كاسترو» وبقية قادة التحرر الوطني فريدة بصورها النادرة ولمساتها الإنسانية ومعانيها التاريخية.

في اجتماع تاريخي، بالمعنى الحقيقي، ضمت مائدة واحدة بمقر البعثة الأممية اليوغوسلافية قادة العالم الثالث. بدا العالم كله منتبهاً لما يحدث، التاريخ يتغير، العالم الثالث ينهض، وحركات التحرير تملي كلمتها. لماذا عقد ذلك الاجتماع التاريخي في مقر البعثة اليوغوسلافية؟

كانت الإجابة بنصها ورسالتها إلى الذاكرة اليوغوسلافية التي كادت أن تُمحى:«تيتو أقدم القادة، الوحيد الذي حارب في الحرب العالمية الثانية، ومكانة بلاده تخولها أن تحتضن الاجتماع، الذي استبق إعلان حركة عدم الانحياز من بلغراد».

في بناء الشريط الوثائقي كان لافتاً ما أبدته مخرجته من غضب وسخط، على مستوى التغطيات الأمريكية والفرنسية لاجتماعات قادة عدم الانحياز في نيويورك وبلغراد، حيث جرى التلاعب بالصور وإطلاق الأوصاف على القادة الكبار باستهانة من فرط الضيق والكراهية لما يمثلونه.

..الحرب على الذاكرة ما زالت ممتدة حتى الآن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4nhzrnrx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"