الديمقراطية تنحر نفسها

00:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

لم تعد الدول التي لا تنتهج النظام الديمقراطي أسلوباً للحكم خطراً على الديمقراطية، كما يتوهمون، بقدر ما أصبحت الدول الديمقراطية ذاتها هي الخطر الأكبر على هذا النظام السياسي الذي شهدت أثينا القديمة أول تطبيق له في عام 508 قبل الميلاد، واقتصر في البداية على مشاركة النخبة السياسية والاقتصادية في اتخاذ القرار؛ أما الديمقراطية بشكلها الحالي فقد عرفها العالم في فرنسا عقب الثورة الفرنسية والتي أرست قوانين الحريات وحقوق الإنسان ووضعت قواعد حكم الشعب للشعب من خلال الانتخابات التي تشارك فيها مختلف الفئات سواء لاختيار الرئيس أو من يمثلونه في البرلمان، وكانت فرنسا وبريطانيا أول دولتين تنهجان النهج الديمقراطي، لينتقل النظام تدريجياً إلى دول مختلفة حول العالم.

الديمقراطية اليوم في وضع لا تحسد عليه، فقد أصبحت تترنح في الدول التي تعد نفسها حارسة لها، ومبشرة بها حول العالم، ولعل ما حدث في البرازيل (خامس أكبر ديمقراطية في العالم)، الأسبوع الماضي، من اقتحام عشرات الآلاف من أتباع الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو للمحكمة العليا والبرلمان والقصر الرئاسي، وما ارتكبوه من أعمال عنف رافضين تولي الرئيس اليساري المنتخب لويس ايناسيو لولا دا سيلفا مهام منصبه، ومطالبين بعودة الرئيس المهزوم إلى الحكم.. كل هذا خير دليل على ما آلت إليه الديمقراطية وهو آخر فصول نحرها.

أحداث البرازيل أقلقت حماة الديمقراطية في أمريكا وأوروبا، الذين رأوا فيها تهديداً لنظام سياسي يسعون إلى فرضه وتكريسه عالمياً بصرف النظر عن مدى صلاحيته لهذه الدولة أو تلك، ويستخدمونه أحياناً سلاحاً سياسياً يشهرونه في وجه الدول التي تنهج نظاماً غيره وتهدد مكانتهم العالمية؛ لذا كانت إدانتهم للمتمردين في البرازيل.

ليس مفاجئاً ما فعله أنصار بولسونارو، وقد سبقهم إليه أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب عندما اقتحموا مبنى الكابيتول، لإبقائه رئيساً على الرغم من خسارته للانتخابات.

سلوكات وتصريحات بولسونارو تؤكد أنه من ذاك النمط الذي يستبيح غير المباح، فقد أيّد المتظاهرين الذين يطالبون بتدخّل عسكري، وإغلاق المجلس الوطني والمحكمة العليا. يذكر أن بولسونارو كلف ابنه إدواردو، ليعلن أن المقتحمين كانوا سينجحون في مهمّتهم لو «حسّنوا خططهم»، وهو ما فسره بعض المحللين بأنه كان يريدهم «أن يقتلوا عناصر الشرطة في الداخل ومن يجدونهم من أعضاء الكونغرس»، وفي وقت ندد فيه العالم كله بروايات ترامب وإثارته الشكوك حول نتائج الانتخابات، تبنى بولسونارو وجهة نظره بحصول تزوير في الانتخابات الأمريكية.

بولسونارو سار على نهج ترامب، وما حدث في أمريكا تكرر في البرازيل.

الديمقراطية، نظام مثالي نظرياً، لم يفرق بين مواطن ومواطن، وهو نموذج للعدالة السياسية في منح حق الانتخاب والترشح لكل شخص عاقل، وجاء بمهمشين في دول مختلفة إلى سدة الحكم، ولن يكون لولا دا سيلفا الرئيس البرازيلي الملهم آخرهم، والذي صعد من القاع إلى القمة وتم انتخابه رئيساً ثلاث مرات، ولكن الديمقراطية أيضاً جاءت بأدولف هتلر وموسوليني إلى سدة الحكم في ألمانيا وإيطاليا، كما أن الديمقراطية جاءت بليزا تراس إلى رئاسة الحكومة البريطانية لمدة 45 يوماً فقط ثم لفظتها، وخلقت حالات من عدم الاستقرار السياسي في دول عدة تمثّل في تكرار إجراء انتخابات بفاصل عدة أشهر، والغريب أن كثيراً ممن جاء بهم النظام الديمقراطي إلى الحكم وتعهدوا بمحاربة الفساد تمت محاكمتهم وسجنهم بعد استبعادهم من السلطة بتهم فساد.

الديمقراطية تترنح، وتكاد أن تنحر نفسها بنفسها، فهل ما يحدث في أنظمة ديمقراطية مختلفة من أزمات يكون دافعاً لحراسها حول العالم للبحث عن حلول لمشاكلها بدلاً من استخدامها وحقوق الإنسان سيفاً مسلطاً على غيرهم؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/fxyxmny8

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"