قياس الحاضر على الماضي

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

ما مدى دقة القياس كوسيلة معرفية وأداة استدلال منطقي؟ السؤال يبدو من قبيل الأفكار المجردة، لكن الغاية ملموسة. في «حوارية حال الشعر العربي» (15 يناير) وردت جملة لا بأس بالبناء عليها: «نحتاج إلى براهين صلبة لنثبت أن الأدب اليوم نمو طبيعي لما سبقه».
في ميراثنا الأدبي مفاخر من الإبداع والغزارة معاً. الدهر أعجز من أن يكرّر أبا العلاء، فالمعري واحد مفرد لا يُثنّى ولا يُجمع، ولو بحثت عن نظير له في كل اللغات لرجع إليك البحث وهو حسير. لا ترى مطلقاً من متشابهات أو مشتبهات بين روائعه التي يتفرد كل أثر فيها بقمة التحدي، وكل أعجوبة من إبداعاته مجموعة قمم: «رسالة الغفران» قمة في الخيال، في الموسوعية اللغوية، في السخرية والنقد الأدبي الساخر، في الترفّع عن التقليد، في الإصرار الفطري على الإتيان بما لم يأت به أحد. لا تماثل بين «الفصول والغايات» وتحفة «الصاهل والشاحج»، أما «اللزوميات» فلا تشبه حتى ديوان «سقط الزند». لكن لا ننسَ أنه الأستاذ في حريات الفكر والرأي والتعبير.
ليس المِلاك الجمع بين الإبداع والغزارة، لكن اجتماعهما عظمة. ادخل مدينة العجائب عند ابن عربي، سيصيبك بالدوار الإحساس بالجمال. إن رمت الآفاق الصوفية فدونك و«الفتوحات المكية»، أو فانهل من «فصوص الحِكَم»، وإن طلبت الترحال في التفسير العرفاني للقرآن الكريم فعليك بتفسيره. لكن ماذا تقول في الصوفي الذي صار مجنون ليلى هياماً بالحسناء العارفة «نظام بنت الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني» التي عرفها في مكة؟ هي التي ألهمته ديوان «ترجمان الأشواق». لكن لا ننسَ أنه مبتكر فكرة الإنسان الكامل. بعد قرون جاء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ليدعو بصوت أوبرالي إلى «السوبرمان». ابن عربي وإنسانه الكامل كلاهما مهجور في ديار العرب.
ماذا عن ابن خلدون في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؟ ماذا عن ابن رشد وروعة التوفيق بين الشريعة والفلسفة؟ ما رأيك الآن؟ ألا نحتاج إلى براهين قاطعة لنجرؤ على الادعاء أن الأدب اليوم نموّ طبيعي لكنوز الماضي؟ سيقفز عشاق الافتراء صائحين: في أوروبا أيضاً توارى الشعراء والأدباء الأسطوريون. لا شكسبير، موليير، دوستويفسكي، جوته ولا دانتي. القياس عليهم سطحي، تركيبتهم مختلفة، لديهم مئات الفلاسفة والمفكرين اليوم، لديهم جيوش من أهل البحث العلمي في العلوم البحتة والتطبيقية والإنسانية، إلى جانب الآداب والفنون، ولا ننسَ الفراغ المقيت في التنمية العلمية والصناعات والتقانة في العالم العربي.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاتهامية: مَن المسؤول؟ المناهج ولا شك، وهذا موضوع يحتاج إلى موضوع.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdh8tfk4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"