عادي
لوحة ألهمت الشعراء والروائيين

«العميان» لبروجل.. الضياع جرح في قلب الإنسان

23:31 مساء
قراءة 4 دقائق
11
لوحة العميان

الشارقة: علاء الدين محمود

الفنان الفلمنكي الهولندي بيتر بروجل الأكبر «1525-1569»، هو من أشهر الشخصيات التي مارست الفن في القرن ال 16، وأكثرها لمعاناً وعبقرية، حيث كانت له بصمته في تصوير الحياة الريفية التي برع في رسمها والتعبير عنها بالألوان الدافئة التي تجعل المشاهد نابضة بالحياة، فقد اقترب من حياة البسطاء وحاول التعبير عن معاناتهم اليومية، وهو الأمر الذي أكد أهميته الفنية وتفرده، فهو يعد أهم رسام ساخر في هولندا بعد هيرونيموس بوش، وقد لقب ببروجل الأكبر أو الأب تمييزاً له عن رسام آخر هو بروجل الابن الذي اشتهر باللوحات التي يصور فيها مناظر مخيفة لكائنات أسطورية، ومن أشهر لوحات بروجل الأب: «الشتاء»، «رقصة الفلاحين»، «صيادون على الثلج»، «الحصاد»، وغير ذلك من الروائع الفنية.

ولد بروجل في قرية قريبة من مدينة «بريدا» تدعى «بروجل»، ومنها أخذ اسمه الذي اشتهر به، وصار علامة ورمزاً للتفوق والإبداع الفريد، وقد بدأ بروجل حياته الفنية في وقت مبكر، فلم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره، حتى ذهب إلى مدينة «أنفرس»، وهناك تعلم فن الرسم والتصوير على يد المعلم «بيير كوك»، الذي كان عمدة الفنون في تلك المدينة التي عرفت بتطور الحراك الفني في ذلك الوقت، وبالفعل فقد تعلم بروجل الكثير من كوك وقام بدراسة أعمال الفنانين الكبار، الأمر الذي أغراه بالذهاب إلى إيطاليا، حيث كان فنانو عصر النهضة في أوج تألقهم الفني، حيث تجول في أنحاء إيطاليا عاصمة الفنون، وكذلك صقلية، فكان أن اكتسب معارف وأساليب فنية جديدة، غير أنه حافظ على طابعه الفلمنكي الخاص، إذ كان حريصاً على تصوير المشاهد المحلية، ولاسيما المناظر الريفية وحياة الفلاحين، وكان أن تمرد على قواعد ومسارات الفن النهضوي، عبر موضوعاته التي أصر على رسمها، وكان نتاج ذلك الفعل هو الكثير من اللوحات والأعمال التي خلدت على مر الأزمنة، حيث استمر بعد عودته إلى «أنفرس»، في رسم حياة الفلاحين.

وتعد لوحة «العميان»، أو «الرجل الذي يقود قافلة العميان»، التي رُسمت بالطلاء الطباشيري، من أشهر أعماله وتعتبر من أيقونات الفن الهولندي والعالمي، وهي تنتمي إلى الفلسفة الإبداعية لبروجل في تصوير حياة الفلاحين والبؤس والشقاء الذي يتعرض له الإنسان، حيث يقول مؤرخ الفن ريمون كونيات: «في لوحات بروجل تبدو مناظر الفلاحين بثيابهم السوداء الكئيبة، وخطواتهم البطيئة، وقد حملوا حاجياتهم على ظهورهم المحنية، وكأنهم يحملون هماً دفيناً ولد معهم، وكثيراً ما تزيد الثلوج المتراكمة على المروج والطرقات، من إيحاء هذا الطابع الحزين»، وهذا الوصف ينطبق فعلاً على الكثير من أعمال بروجل، ومنها هذه اللوحة العجيبة «العميان»، التي وجدت صدى كبيراً في العصر الذي رسمت فيه وما زالت حتى وقتنا الراهن، رسمها بروجل في وقت متأخر من حياته، ولعل احتشاد اللوحة بالرموز والمشاهد الطبيعية يشير إلى أن فضاء العمل هو الريف، حيث الفلاحين والبسطاء والمتعبين من البشر.

وصف

في «العميان» يرسم بروجل مشهداً يظهر فيه جمع من العميان، أو قافلة منهم، بملابسهم في جو شتائي في الريف، ويحمل هؤلاء العميان عكاكيزهم ويستندون في سيرهم إلى بعضهم وهم يعبرون ممراً، بينما يظهر في مقدمتهم شخص هو قائدهم الذي يعتمدون عليه تماماً في المسير، وفي هذا المشهد برع بروجل في تصوير الشقاء الإنساني لهؤلاء الأشخاص، حيث تبدو الحيرة وربما الضياع في وجوه العميان، كأنهم يتوقعون حدوث كارثة، وتظهر اللوحة أن القائد قد سقط في أخدود، ونظراً لتمسّكهم جميعاً ببعضهم بعضاً عبر العصي، يبدو أنهم جميعاً على وشك السقوط، فيما يُلاحظ وجود راعي بقر في خلفية اللوحة.

وعرف عن اللوحة أنها برزت كمثال واضح على براعة بروجل وإتقانه الفني، وقدرته على الملاحظة والتقاط التفاصيل الصغيرة، حيث إن لكل شخص من هؤلاء العميان علّة مختلفة في عينه، ويُرى الرجال في اللوحة برؤوس متجهة نحو الأعلى في محاولة منهم للاستفادة من حواسهم الأخرى بشكل أمثل، فيما تعزز هيئة اللوحة المائلة الحركة غير المتوازنة للشخصيات الست المتهادية نحو الأمام باضطراب، كما تُعتبر اللوحة تحفة فنية نظراً لما تضمه من تفاصيل دقيقة وبنيتها المتقَنة.

وتشير اللوحة إلى معارف بروجل وثقافته الواسعة، حيث إن العمل قد أثار موجة من التساؤلات في أوساط النقاد والمشتغلين بالفنون حول العمى المقصود في اللوحة، وهل هو حقيقي أم مجازي؟، حيث أشار الكثير من مؤرخي الفن إلى أن اللوحة قد احتشدت بالرموز والرؤى الفكرية والفلسفية، حيث أكد العديد منهم أن الفنان يشير إلى ضياع الإنسان وتخبطه وبحثه عن المصير.

عوالم

لفت العمل أنظار المبدعين من الشعراء والروائيين، حيث ألهمت الكثير منهم مثل، الشعراء شارل بودلير، وويليام كارلوس ويليامز، وهناك رواية كتبها الأديب جيرد هوفمان، مستلهمة من اللوحة، غير أن أشهر تلك الكتابات الباذخة عن عوالم اللوحة، تلك القصيدة التي خطها الشاعر إريش لوتس، الذي فقد بصره في الحرب العالمية الأولى فكان أن استدعى تلك اللوحة ليكتب هذا النص:

«الجرس يجلجل في أرجاء البيت/ والرعب يرج فؤاد الليل الساكن/ وعلى مضض يجفو النوم جفوني/ في الحلم رأيت الصورة/ آخر صور الرسام بروجل/ نحو الموت الداهم تتعثر أقدام رجال ستة/ الكريات بتجويف الأعين جوفاء/ غير بريق/ وشعاع الحي كذلك مطفأ/ والكل تشبث بقضيب وتحسس وجهة دربه/ سقطوا في قبضة قدر أعمى/ واندفعوا في الليل الأعمى».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y55bezje

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"