عادي
لوحة تأثرت بموسيقى فاجنر

«فتاة البيانو».. الرسم يعزف على أوتار القلب

23:40 مساء
قراءة 4 دقائق
10

الشارقة: علاء الدين محمود

وصل الرسام الفرنسي بول سيزان «1839 1906»، إلى حدود العبقرية الفنية، إلى درجة أنه اعتُبر الأب الحقيقي للفن الحديث، وذلك لممارساته الإبداعية الباذخة، ولأسلوبه الذي كان بمنزلة قنطرة انتقال كبير في تاريخ الفنون، وذلك ما أكد عليه النقاد والمؤرخون عقب وفاته، عندما أشاروا إلى أن سيزان عرف كيف ينقل اللوحة من مجاهل القرن التاسع عشر إلى آفاق القرن العشرين؛ حيث قدّم تجربة مختلفة منذ بداياته، فقد مارس التصوير في الهواء الطلق عندما تخصص وبرع في رسم مشاهد الطبيعة، وبصورة خاصة «الطبيعة الصامتة»، وكذلك قام بنقل أحاسيسه التصويرية في تراكيب جسمية وكتلية «ملامح بشرية وغيرها»؛ حيث كان لأعماله تلك تأثير كبير على العديد من الحركات الفنية الرئيسية، مثل الوحشية، والتكعيبية، والتجريدية، وعلى الرغم من ذلك التأثير القوي الذي مارسه على جميع المدارس الفنية، إلا أنه من الصعب تأطير سيزان في تيار فني واحد.

ولد سيزان في مدينة «إكس آن بروفانس» القريبة من مارسيليا في فرنسا من عائلة ثرية، وزامل في دراسته الأولى في كلية بوربون الكاتب الكبير إميل زولا، وبعد أن أمضى فترة من الوقت في دراسة المحاماة نجد أنه فضّل التحول إلى دراسة الفن الذي شعر بميل له، والحقيقة أن الكثير من أعمال سيزان وصفت بالشاعرية، أو متأثرة بالأدب، ويرجح أن ذلك يعود لتأثير إميل زولا القوي على حياة الرسام، ودائماً ما يشار إلى أن سيزان فكر كثيراً في الاتجاه نحو الكتابة الأدبية، وكان حائراً ما بين أن يصبح كاتباً على غرار زولا، أو محامياً كما كان يريد له والده، إلى أن حسم أمره في خوض تجربة الرسم عندما اكتشف في نفسه تلك الموهبة وكان يبلغ من العمر حينها 21 عاماً، والحقيقة أن تلك التجربة، في بدايتها، كانت شديدة القسوة والصعوبة، حيث وجدت لوحات الفنان الرفض في كل المعارض التي شارك فيها في تلك الفترة، بل وكان يجد سخرية من الجمهور، غير أنه تحلى بروح التحدي والمثابرة، فلم يحفل بآراء النقاد والجمهور وشق طريقه، وعندما كتب صديقه إميل زولا روايته «العمل» التي يتحدث فيها عن قصة حياة رسام فاشل، قام سيزان بمقاطعته على الفور؛ لأنه شعر بأنه المقصود، فكانت تلك الواقعة بمنزلة نهاية صداقة طويلة بين المبدعين.

يعمل في صمت

لم يستسلم سيزان، بل ظل يعمل في صمت، وبدأ الفنانون يكتشفونه شيئاً فشيئاً، خاصة بعد أن كتب عنه الناقد والكاتب دنيس هويسمان، مقالاً لفت إليه أنظار مجتمع الفن، فكان أن تمّت دعوته لمعرض دولي في بروكسل، ثم معرض آخر في باريس، والذي كان له الدور الفاعل والكبير في إحداث منعطف في حياة سيزان الذي كسب الرهان في آخر الأمر، وأصبح من أهم الفنانين العالميين الذين خلدهم التاريخ.

لوحة «فتاة تعزف على البيانو»، التي رسمها عام 1868، تعتبر أحد أهم أعماله التي سكب فيها إبداعاً باهراً، وهي تختلف كثيراً عن رسوماته التي اشتهر بها والتي تصور الطبيعة الصامتة، لكنها بطبيعة الحال تنتمي إلى أسلوبه الفني الفريد، وقد ذكر الكثير من النقاد أن اللوحة هي من فعل تأثير الموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاجنر، الذي سيطر على النصف الثاني من عصر الموسيقى الرومانتيكية، ويشار إلى أن اللوحة تأثرت بصورة أكثر خصوصية بأوبرا «تانهاوزر»، وهي من الأعمال الموسيقية المهمة لفاجنر الذي استطاع بأسلوبه اللحني المذهل أن يغير شكل الأوبرا بطريقة ثورية؛ حيث الإطار الملحمي الفخم للألحان بالغة التنوع والتأثير، وكان فاجنر قد استولى في ذلك الوقت على عقول الشباب الفرنسي، غير أن الثابت والمعروف أن سيزان قام برسم هذه اللوحة ليهديها إلى أخته التي سعدت بذلك المشهد الفني الرائع والمعبر، وينتمي العمل إلى رسومات الفترة الأخيرة من حياة سيزان، الذي انشغل في ذلك الوقت برسم مجموعة من اللوحات لشخصيات ومشاهد ذات طابع عائلي.

وصف

جسد سيزان في هذه اللوحة لحظة واقعية لفتاتين ضمن جو هادئ، إحداهما ترتدي فستاناً أبيض وهي تعزف على آلة البيانو، بينما تجلس الأخرى على الأريكة وهي تنهمك، أثناء الاستماع إلى العزف، في عملية غزل القماش، ولعل أول ما يلفت انتباه الناظر في هذه اللوحة أن هذا المشهد الذي أمامه يبدو طبيعياً وحقيقياً ومكتملاً تماماً، مصنوعٌ بواسطة ضربات فرشاة قوية وعريضة، مع ألوان زاهية وساطعة، فعلى الرغم من ضعف الإضاءة، إلا أن الفتاة التي تعزف الموسيقى تبدو مشرقة، وتظهر آلة البيانو في اللوحة وكأنها حقيقية، فيما يبدو من تعبيرات الفتاة التي تجلس على الأريكة نوع من الحزن، وقد يلاحظ المشاهد اليقظ أن الكرسي الذي يقف في الزاوية، والآخر الذي يقبع في الخلف يثيران الشعور بالوحدة والفراغ ونوعاً من العزلة للفتاتين، كما يبدو جلياً أن الفتاتين هما من الطبقة البرجوازية.

وتكمن براعة الفنان في توظيف ألوان الباستيل بدرجات مختلفة ومتنوعة في صناعة مشهد شديد الإشراق والجمال، كما تشير اللوحة إلى تأثر سيزان بالفن الإسباني بطريقة تلوينه للعمل، وإظهار العلامات الفارقة مثل تمييز خطوط آلة البيانو عمّا يحيط به، كما أن اللوحة محتشدة بالكثير من التفاصيل الصغيرة والدقيقة، ويلاحظ فيها التقابل بين اللونين الأبيض والأسود الطاغيين، إلى جانب درجات من الأحمر، ولفت بعض النقاد إلى عبقرية الفنان في صناعة الجلسة المتعارضة للفتاتين، بحيث عبّرت إحداهما عن مشهد جانبي، فيما عبّرت الثانية عن مشهد أمامي، وكأنهما معاً شخصية واحدة بوضعيتين مختلفتين، وأشار كثير من النقاد إلى الملمح الرومانسي الشاعري الذي يبدو جلياً في هذه القطعة الفنية التي أبدعها سيزان.

وجدت اللوحة صدىً كبيراً، وصارت فيما بعد من أهم أعمال سيزان ذات الشعبية الكبيرة، وهي توجد اليوم في متحف «الإرميتاج» في سان بطرسبرغ، في روسيا والذي يعدّ واحداً من أكبر المتاحف في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y7x57ku7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"