الميكيافيلية والمبادئ والمنفعة العامة

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

كتب نيكولو ميكيافيلي قبل مايقارب 600 عام؛ أن الغاية تبرّر الوسيلة، بصرف النظر عن الطريق الذي يمكن سلوكه للوصول الى الهدف. وفي كتابه صغير الحجم تحت عنوان «الأمير»، قدّم برنامجاً للحكم، فيه بعض الوقائع العلمية الدامغة، مثل تبريره لبُخل الحاكم والتقشف على الشعب من أجل تجنّب فرض ضرائب جديدة، قائلاً: «إن القسوة أحياناً أرحم من الرحمة».

أما المفكر اللبناني كمال جنبلاط، فقال: إن الطريق هو ذاته هدف، والقيم الإنسانية مبادئ سامية يجب أن تقف خلف كل تدبيرٍ عام «فإن أنا عدلتُ مع غيري عدلتُ مع نفسي»، وبالتالي فلا يمكن تحقيق العدالة إلا إذا اعتمدنا طريقاً مشروعاً لا يسبب سلوكه ضرراً للعامة. ومقولة «مصائبُ قوم عند قوم فوائدُ» لا يمكن أن تصلح كسبيل لتحقيق المنفعة العامة، بينما هذه المنفعة يمكن توفيرها من خلال اعتماد المبادئ الإنسانية التي ترتكز على المساواة والرأفة، وعلى الحقوق الطبيعية لكل الناس في العيش بكرامة، وفي مناخ من الحرية.

ويُشبّه ميكيافيلي التعاطي بين الناس بالقواعد التي تحكم حياة الغابة، فهي تحتاج للأسد لتخويف المخلوقات الأقل قوة، وتحتاج للثعلب ولحنكته في تدبير الأمور، والاحتيال للهروب من المنزلقات الخطرة وللنفاذ من نتائج الأفعال الشنيعة. إن واقع الحياة الآدمية تختلف عن أحكام الغرائز الطبيعية للحيوان على اختلافه، فليس صحيحاً أن الناس جميعاً يحملون بذوراً شيطانية، أو أنهم سيّئون بالفطرة، كما يقول ميكيافيلي، فالناس يولدون ميالون إلى العفوية وطيبون بالفطرة، ونزعة الشرّ لديهم استثناء تغذيه حالات الحرمان، أو الاضطهاد، أو الظلم والقسوة، وتتزايد النزعة العدوانية من جراء البيئة التي يعيشون فيها، فهناك شعوب بأكملها ما زالت مسالمة ولا تحب العنف، وتعتمد التقوى في دفاعها الفطري على النفس.

ويعيش العالم حالة متزايدة من الشراهة في ممارسة الأعمال التي تؤدي لتحقيق النفعية المادية، وغالباً ما تكون نتائج ممارسة الشراهة المادية وبالاً على شعوب أخرى، أو أنها تُسبّب مصاعب كبيرة للعالم. والدعاية السياسية المُتفلّتة؛ تجاوزت كل الحدود في قلب الحقائق، وتحوير الوقائع، والوسائل الحديثة التي تستخدمها هذه الدعاية أصبحت قادرة على الدخول إلى العقول، وتخدير الذاكرة والتعمية على الوقائع، وتسليط الضوء على أوهام غير صحيحة. وقد اعتمدت دول كبرى ومجموعات عقائدية مختلفة على أساليب ملتوية في عرض سياستها، وفي شيطنة الخصم، لتبرير اعتماد أي من الطرق الملتوية للوصول الى هدف تدمير هذا الخصم، او إلحاق الضرر به، أو القضاء عليه.

ويمكن التأكيد أن القوانين والمعاهدات التي أقرها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية آخذة في التقهقر، برغم أن أغلبية هذه اللوائح استندت إلى مبادئ المساواة بين الدول ذات السيادة، كما لحظت معايير موحدة لحقوق الإنسان.

ويقول أصحاب النظريات البراغماتية الحديثة: إن المبادئ هي مجرّد وجهات نظر، مثلها مثل غيرها من المقاربات، والدوافع التي تحرّك الناس؛ هي الرغبة في تحقيق المصلحة، وهذه المصلحة متغيرة وهي التي تُحرّك سياسة الدول وليس أيُ شيء آخر. وهناك صراع بين أصحاب هذه المقاربات، وبين الرؤى الميتافيزيقية، أو الأفلاطونية التي تعتمد على مثالية تولد بالفطرة مع الإنسان، وأساسها قيم المحبة والتعاضد والرأفة التي أنشدتها الديانات السماوية السمحاء. لكن بعض المنظومات، أو الأنظمة، أنتجت آلة ميثولوجية عملت على استغلال القيم، الإنسانية أو الدينية، لتحقيق طموحاتها السياسية، من خلال تعبئة عقائدية صنعت أوهاماً عند بعض الناس، من دون أن يعرف هؤلاء أن حالة من الاستغلال الامبريالي، أو الأمبراطوري، تحصل، ويكون معها الناس وقوداً لمعارك يستفيد منها الحاكم أحياناً، أو الشركات أحياناً أخرى، أو المجموعات التي تبيع الوهم للناس، لتستمرّ بنفوذها، أو لترويج أفكارها المشوهة.

صحيح أنه للحقيقة ألف وجه، ولكن الحق واحد. تعرجات المكيافيلية يمكن أن تكون طريقاً قويماً إذا ما هدفت إلى تحقيق مبادئ العدالة، أو إلى المنفعة العامة. وفي غير ذلك فإنها وبال وانحراف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2235bjkv

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"