عندما يصفَر وجه التاريخ

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

أفكّر كثيراً ب«فوبيا» مصطلح «الجحيم» الملتصق بل المستبدّ بألسنة اللبنانيين وحبر معظم الكتّاب مغالين ومجاهرين بزوال لبنان، بل شطبه عن الخرائط. وأتساءل: أليس اعتناق الجحيم نسفاً للتواصل وضمور العقول وترسيخ القناعات باستعصاء الحلول إلاّ بالخارج؟

في الجواب، يردعني المثل الإغريقي القديم القائل: «كلّما أضعت جذورك فإنّك تنتهي بفقدان رجليك؛ لأنّها تتبخّر في الفضاء»، لكنني أقفز فلسفيّاً فوق هذا المثل الذي لم يعدْ يُغري الشباب المقيمين في الفضاء ولو انتموا لأوطان كلبنان فريسةً متعثّرة لكنها صارت أكثر إغراءً بعدما التمعت ثروات الغاز والبترول الهائلة تحت قدميها المشلولتين.

يسحبنا هذا المثل نحو العقل الفلسفي الذي أورثنا أسئلةً تُرجمت ونُقشت بتواريخنا مثل قبب حواريات أثينا القديمة في الوجود والموجود والخالق والمخلوق والأسئلة الفلسفيّة الكبرى، قبل أن ترفع الأسئلة يديها لتحلّ هموم الإنسان عبر الأديان التوحيدية. لربّما وصَلنا الشعار، وليد الخوف الإغريقي الذي استغرق طويلاً بحثاً عن الحقائق بين الأرض والسماء، فبلغ العالميّة وكأنّه العولمة الأولى التائهة بين السؤال بحثاً عن الحياة مقابل الجواب الذي يختزن الموت أي موت الحقيقة عند امتلاكها. تلك هي مآزم الشعوب الهائمة بين التديّن والعقل والأجيال أبناء الأسئلة.

أعبر مذكّراً بشعار «لبنان أوّلاً» الذي رفعه المسلمون ليطمئنّ المسيحيّون الموارنة تحديداً دون تخلّيهم عن «طابو» ذي وجهٍ فرنسي بامتلاك صلاحيات الجمهورية اللبنانية حتّى عند الاحتفال بمئوية إعلان دولة لبنان الكبير الذي شوّهته المظاهرات والحرائق وتفجير المرفأ وكوارث السقوط الاقتصادي والمصرفي، ملقيةً ثقاب التغيير الأوّل في 17/ 9/ 2019 الذي خبا تاركاً الإحباط العام بحثاً عن جذور لبنان بين الأرض والفضاء وبين الشرق والغرب المتداخلين. لم يكن لبنان ضامراً في المحيط حتى ينكمش مرضيّاً خلف الشعار، لكنه كان يحاول إعادة رسم حدوده الرخوة بين داخل يتمزق رئاسيّاً وحكوميّاً وسياسيّاً وطوائفيّاً ترتيباً لصلاحياتٍ متشابكة، وخارج يتعرّق مشغولاً بالحروب العالمية بين أوكرانيا وروسيا وغيرها.

الغريب أنّ بعض حكّام لبنان الشباب أحفاد بناة لبنان بنظرهم، بقوا يتماهون بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما قال: «أمريكا أوّلاً». لم يكن ليقلّدهم، بالطبع، كرئيس دولة كبرى، إلاّ أن أوهامهم ورمت وغالوا في الترويج لها كأنّ التاريخ القديم منقوش أبداً فوق جبهة وطنهم وهم مستمرّون بإدارة بقعةٍ وكأنها لا مواطنين فيها، وعيونهم مفتوحة وآذانهم ببلاهةٍ على الخارج، أيّ خارج حتّى ولو كان هذا الخارج شارلمان أبو اللحية الزاهرة وأبو أوروبا الغربيّة الذي أعاد بناء الإمبراطورية الرومانية بمساعدة بابا رومية في القرن الرابع.

لا يعني هذا الماضي المستورد كثيراً، ولا تعني المراتب الأولى كثيراً لشابات وشباب فرنسا والعالم، لا في كتب التاريخ والذاكرات الطريّة على مقاعد المدارس وامتحانات أواخر السنوات الدراسيّة. أكاد أجزم بالتجربة، أنّها تواريخ تثير الخجل إن لم نقل الاحتقار لدى الشباب. لنتصوّر أنّ أستاذاً جامعيّاً لبنانيّاً يحمل الجنسية الفرنسية مثلاً، تشاجر مع زملاء له فرنسيين في ال2017؛ إذ راح يُغالي مسايراً وممجداً نابليون بونابرت، ظنّاً منه أنّ فرنسا أو الأم الحنون للبنان ما زالت تخرّ أمام تماثيل القائد.

لقد تغيّرت عقليات الأجيال الجديدة ونظراتهم ومفاهيمهم المتقدّمة في الغرب والشرق، وبهِت وهج التاريخ، واصفرّ بالنسبة إليهم إذ ما عادوا يدخلونه من تماثيله أو أبوابه الذهبية ومتاحفه العسكرية وصور القادة والحكّام المتكدّسة في متاحف العواصم ليرتادها السيّاح منبهرين، بينما يستعرضها الشباب المُعولم بالتأفّف والوشوشات الساخرة التحقيرية. ينسى الشباب بسرعةٍ ما يسمعونه في متاحف «البطولة»؛ لأنّ ثقافات معاصرة واسعة تجذبهم نحو المعرفة والثقافة خارج الأبّهة والعظمة والتشاوف لاكتشاف الآخر عبر نوافذ التلاقح والانجذاب لثقافات الشعوب البعيدة وأنماط عيشهم وتواريخهم وطقوسهم ومشاكلهم في الإنسانية الكبرى.

تبهت صور العظمة تباعاً، وتحتلّ قضايا الرواتب وأجور المتقاعدين والبطالة وعدم المساواة والأزمات المعيشية، وأقساط المدارس والجامعات، بعداً كونيّاً، تُلقي المسؤوليات على حكّامٍ ومسؤولين ومؤسّسات فاسدة منتفخة وكأنها غير موجودة.

منذ أزمة اليونان الاقتصادية المالية مع نهاية ال2009، مروراً بقيام حركة الفقراء في أيلول/ سبتمبر 2011 باحتلال «بارك زيكوتي» في نيويورك و«الوول ستريت» ضد جشع 1% من الأثرياء، طارت شرارات الرفض، وانتشرت نحو نيجيريا وآيسلندا وفانكوفر وملبورن وبوسطن، واستمرّ انفراط الأزمات الاجتماعية أمام الشابات والشباب الخارجين من جذورهم في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا والبرتغال وسلوفينيا وإيرلندا وليتوانيا والعراق وهونغ كونغ والسودان وإيران والهند وكولومبيا والإكوادور وفنزويلاّ وبوليفيا وتشيلي وهاييتي ولبنان؛ بحثاً عن جذور التغيير والعدالة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mryy7zk2

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"