عادي
شخصية ثقافية فرنسية مؤثرة في القرن ال18

«مدام دي بومبادور»..ملـكـة «الــروكـوكـو»

00:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
فرانسوا بوشيه - مدام دي بومبادور

الشارقة: علاء الدين محمود

قدّم الفنان الفرنسي فرانسوا بوشيه (1703  1770)، ممارسات فنية اعتبرت من قبل النقاد والمؤرخين عنواناً للتناغم في الموضوعات الكلاسيكية، وهو رسام تصاميم ونقّاش، عمل بأسلوب الروكوكو، أو ما يعرف بالزخرفة الرمزية، وموضوعات الأدب الرعوي، وربما يكون هو من أبرز الفنانين الزخرفيين في القرن ال18، وقد استوحى إلهامه من بيتر بول روبنس، وأنطوان واتو، حيث تميزت التجارب الأولى له بالشاعرية وهدوء المناظر الطبيعية، غير أنه تخلى عن ذلك بعد فترة ليتجه نحو مرافئ وإبداعات جديدة تصور شجون العاطفة والحب.
ولد بوشيه لأب هو في الأصل رسام ذو شهرة قليلة يدعى نيكولاس بوشيه، الذي شجع ابنه على الفنون ودرّبه عندما كان في سن السابعة عشرة، وكانت المسيرة الفنية لبوشيه الابن حافلة بالنجاحات الكبيرة. ففي عام 1720، حصل على جائزة روما النخبوية للرسم، لكنه لم يغتنم الفرصة المتاحة المترتبة على فوزه بالجائزة، وهي السفر للدراسة في إيطاليا، إلا بعد خمس سنوات لاحقة بسبب الضائقة المادية في الأكاديمية الملكية للرسم والنحت، قُبل  أثناء عودته من إيطاليا  في أكاديمية للرسم والنحت وكانت اللوحة التي تسببت في قبوله بعنوان: «رينالدو وارميدا»، ثم أصبح عضواً في هيئة التدريس بالأكاديمية في 1734 وتطورت مسيرته المهنية إلى أن أصبح بروفيسوراً وبعدها عميداً للأكاديمية، وأصبح مفتشاً في مصنع غوبلان الملكي، وأخيراً الرسام الأول للملك عام 1765.
لوحة «مدام دي بومبادور» التي رسمها الفنان في عام 1756، هي من أجمل وأشهر أعماله، وهي واحدة من سلسلة لوحات رسمها لمدام دي بومبادور (1721  1764)، صديقة الملك لويس الخامس عشر، وصاحبة النفوذ والتأثير القوي في البلاط والحركة الفنية والإبداعية في فرنسا، حيث كانت بمثابة راعية للفنون في ذلك الوقت، وحدث نوع من التعاون الفني بين الرسام ومدام دي بومبادور، حيث أصبح اسمه، مع اسمها، مرادفاً لأسلوب الروكوكو الفرنسي الذي انتشر بقوة في ذلك الوقت؛ الأمر الذي دفع «الإخوة غونكورت»، للقول: «يُعد بوشيه واحداً من أولئك الرجال الذين يمثلون ذوق قرن كامل، يعبرون عنه، ويجسدونه»، وبالتالي فإن هذه اللوحة تعتبر نوعاً من الامتنان من قبل الرسام تجاه هذه الشخصية الملهمة، والتي هي من أكبر المعجبين بالأعمال الفنية لبوشيه، وكانت تعد لوحاته التي رسمها لها ذات أهمية في تقديم شخصيتها في المجتمع الفرنسي والأوروبي بصورة عامة.
 سيرة
من المهم التعرّف بصورة أكبر إلى تلك الشخصية التي رسمها بوشيه، حيث تعد مدام دي بومبادور عرابة فن الروكوكو، ولقبت بملكة الروكوكو، وكانت سيدة موهوبة ومثقّفة وأثّرت بشكل كبير في النواحي الثقافية والفنية والسياسة في البلاط الفرنسي، وهذه اللوحة تصوّر تلك الشخصية ذات النفوذ الثقافي الضخم في فرنسا القرن ال18، حيث رعت مدام بومبادور كثيراً من الأعمال الفنية وضمنت رعاية الملك للكتّاب والرسّامين، وكان شقيقها الماركيز دي ماريني وزيراً للثقافة في ذلك العهد، وقد انتشر أثرها في الفن الفرنسي بل والأوروبي. 
ويرجع هذا إلى حد ما إلى الملك، ولكن أكبر الفضل يرجع إلى شخصيتها، فهي على الرغم من اهتمامها الشديد بالإبداع، فإنها أخفقت في أن تصبح فنانة، ولكنها أحبت الفن وأقنعت لويس الخامس عشر بأن فرنسا تستطيع صناعة ما يلزمها من الخزف بدلاً من استيراده من الصين ودرسدن، وثابرت على ذلك حتى تعهدت الحكومة بتمويل مصانع الخزف، وكان إسرافها الكبير يرجع إلى الرعاية التي أسبغتها على الرسامين والنقاشين على الخشب والمعادن ونجاري الأثاث الفاخر والمعماريين، فأنفقت بصورة كبيرة على بوشيه وعدد من الفنانين؛ بل أسهمت في ارتقاء الفن عبر توجهات جديدة قطعت مع التكرار المبتذل لموضوعات تاريخ العصور القديمة والوسطى وأساطيرها، فكان أن أصبحت فرنسا ذات تأثير فني كبير في أوروبا. 
وكانت بومبادور شديدة الحرص على تثقيف نفسها وكانت تمتلك مكتبة تضم 3500 مجلد، منها 738 في التاريخ، و315 في الفلسفة، ومجلدات كثيرة في الفن، وبعض مؤلفات السياسة والقانون، ولم تقتصر رعايتها على الفنون فقط؛ بل والأدب كذلك، حيث استقدمت فولتير إلى البلاط الملكي، ورعته، إضافة إلى مساعدتها عدداً كبيراً من أدباء فرنسا، وخصصت رواتب لبعضهم وقامت بطباعة مؤلفاتهم.
عندما رسم بوشيه هذه اللوحة، كانت مدام دي بومبادور في ذروة شهرتها وتأثيرها في حياة البلاط، وهي تظهر في مشهد اللوحة، متكئة على أريكة، وهي ترتدي فستاناً حريرياً أخضر أنيقاً مزيّناً بأقواس وردية، وتحمل في يدها اليمنى كتاباً وذلك يشير إلى ثقافتها الكبيرة، بينما تظهر في الدرج يسار يمين الصورة ريشة كتابة، وهي أيضاً ترمز لرعايتها للأدب والفنون والفلسفة إبان عصر التنوير، بينما يظهر أسفل الصورة كلب صغير يدعى «ميمي»، يجلس بطريقة تدل على الوفاء والطاعة، حيث ذكر العديد من النقاد أن الجرو في اللوحة يرمز لولاء مدام دي بومبادور وإخلاصها للملك لويس الخامس عشر، بينما ترمز الوردتان بقرب الجرو للحب الكبير الذي ربطها بالملك، وكان لتوظيف الزهرتين دلالة تعني أن حبها قد تكرس للملك وحده لا غيره.
براعة
تجلس الموديل في البلاط والمجتمع الفرنسي، كأنها تجلس على عرش ملكي، كما أن الرسومات المعمارية في الزاوية اليسرى ترمز إلى حب مدام دي بومبادور للعمارة الهندسية والتصميم وتزيين المنازل بصورة رائعة.
ولعل براعة الفنان تكمن في جعل كل الأشياء التي في تظهر في المشهد تحمل دلالات وإشارات مهمة، فطريقة الجلوس أو الاتكاءة نفسها، تشير إلى المكانة السامية التي تحتلها تلك الشخصية في البلاط والمجتمع الفرنسي، فكأنها تجلس على عرش ملكي، كما أن الرسومات المعمارية في الزاوية اليسرى ترمز إلى حب مدام دي بومبادور للعمارة الهندسية والتصميم وتزيين المنازل بصورة رائعة.
وجدت اللوحة اهتماماً كبيراً في المجتمع الفرنسي، حيث تم توظيفها في طوابع وتصاميم فنية، وعرضت في أفلام وأعمال سينمائية، وهي تعكس روح العصر الذي رسمت فيه اللوحة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8p4mzy

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"