عادي

المشكلة في الثقافة

23:21 مساء
قراءة 6 دقائق
مشهد من مسرحية «سجن القردان»

القاهرة: وهيب الخطيب
«أبو الفنون في أزمة» عبارة تكاد تكون مملّة لكثرة ترديدها، مؤلفون وممثلون ومخرجون ومتفرّجون، ومتابعون وصحفيون ونقاد، يقولونها بيقين كبير، ومع هذا يختلفون في أسباب الأزمة ويعدّدونها، ما بين تراجع الإنتاج وعدم اهتمام المؤسسات الرسمية بالمسرح وعروضه، وشبه اختفاء هائل لنشر النصوص المسرحية، فضلاً عن انصراف القراء عن متابعة المنشور أو التعامل مع النص المسرحي بوصفه نصاً أدبياً كالرواية والقصة والشعر.

نحن بحاجة إلى إعادة صياغة مفاهيمنا للمسرح، والإجابة بوضوح عن أسئلة عدة، من قبيل: ما هو المسرح؟، ومن المسرحي؟، وما النص المسرحي؟، وما الذي نريده من المسرح؟، وما علاقة المسرح بالجمهور، وما علاقة المسرح بالخيال.. خطوات مهمة للغاية في سبيل التخلّص من الأزمة الراهنة، لا أزمة التأليف المسرحي فحسب، وإنما الأزمة الثقافية في سياقها العام.

خطوات مهمة

كون النص المسرحي نصاً أدبياً مسألة حقيقية وراسخة عبر الزمن، منذ نشأة هذا الفن الذي ولد في أحضان الشعر أو من رحم القصيدة، لكن هذا لا يعني بالقطع الاكتفاء بقراءة النصوص المسرحية؛ إذ يشدد كثير من المعنيين بأمر المسرح على أن الاكتفاء بقراءة النصوص لا ينتج شيئاً، بالضبط كقراءة سيناريو الأفلام، فالمسرح فرجة ومشاهدة، ومن ثم فإن سؤالنا عن أزمة النص المسرحي نطرحه أساساً من أجل نهضة المسرح كفن مكتمل يعتمد في جوهره على ركن التأليف.

التأليف الذي يراه المسرحيون عموماً أساس المسرح وبنيانه، والافتقار إلى كتّاب مسرح جيدين يعني افتقار العملية المسرحية إلى العقل الدائم للحركة المسرحية، ومن ثم فإننا نقر منذ البداية بوجود أزمة نصوص مسرحية، نحسها لكننا نتعامل معها بنظرة ليست علمية أو واقعية، فإذا ظل الأدب المسرحي بعيداً عن الخشبة، فسنواصل البقاء في المنطقة الخطأ.

ولفهم أبعاد الأزمة، يجب معرفة كيف يتطور فهم المؤدين للنص من خلال التفاعل في الإنتاج المسرحي. ففي معظم الإنتاج المسرحي يتعاون الممثلون والمخرجون على نحو تشاركي، في البروفات مثلاً، بتحويل نص درامي إلى نص مسرحي أو أدائي. وهنا نصوّر المسرح كممارسة ثقافية وإنتاجه كنشاط موجّه نحو الهدف، نشاط إبداعي مشترك يتطلب تقديم نصه فهماً مشتركاً، مع الاهتمام بالعمل الإبداعي والتعاوني الذي جرى تحقيقه، ما يعني ضرورة معرفة كيفية تأسيس فهم النص المشترك من خلال التفاعل الاجتماعي.

ويمكن فهم النص الدرامي من حيث طبقات المعنى الثقافي، على سبيل المثال، الفترات الزمنية التاريخية، والمضامين الأدبية، والقضايا اللغوية؛ أي الاعتماد على لغة جمالية والشخصيات، وموضوعات النص المركزية، وبعبارة أخرى، نستكشف فهم النص قيد الإعداد.

سؤال

إشكالية النص المسرحي تبدأ من لحظة تأليفه، حين يقف المؤلف أمام الاختيار: الشخصية أم القصة؟ وهما أشبه بالدجاجة والبيضة، من يقود إلى الآخر؟ هل يبدأ باكتشاف شخصياته والسماح لها برسم مسارها الخاص؟، أو هل يكتشف كل التحولات والمنعطفات المثيرة ثم يوصل الشخصيات التي تجعل حبكته قابلة للتصديق؟

عادة ما يكون مزيجاً من الأمرين. فلا يوجد مكان يكون فيه تقاطع الشخصية والقصة أكثر أهمية من الفصل النهائي للمسرحية، أو العرض الذي تحرّكه شخصية سعياً وراء هدف.

وفي ذروتها نكتشف كمتفرجين ما إذا كانت قد نجحت هذه الشخصية أم فشلت، لكن قبل أن يحدث هذا، يجب أن تتطور القصة إلى أزمة.

والأخيرة لحظة يصبح فيها كل شيء على الميزان. ويصير أحد القرارات هو الفرق بين النجاح الكامل والفشل التام. في الرياضة، هذا هو الوقت الذي تنتهي فيه اللعبة، أو تذهب المباراة إلى لحظاتها الأخيرة، سجّل وستفوز. لحظة حاسمة في حياة شخصيات المؤلف. يجب أن يعتمد رفاهها العاطفي، وربما الجسدي، كلياً على الاختيار الذي تتخذه هنا؛ لذلك لا يمكن لأي مؤلف كتابة النهاية دون معرفة جوهر الشخصية، ما يعني أن أزمة الفصل الثالث هي أهم جزء في العرض، النهاية المثيرة التي لن تتأتى إلى المؤلف على الفور، لكن بمجرد اكتشاف تلك اللحظة، يبدأ كل شيء في التراجع، ويُصب كل هذا في مكان درامي يتفاقم فيه الصراع ويصل إلى ذروته.

وبتطبيق ما سبق على النصوص المسرحية العربية في أغلبها، فإننا نجد أن كثيراً منها ساحات نقاش مكتوبة بلغة الحوار، تبرز فيها العبارات الأدبية والمجازات على حساب الفعل الدرامي ورسم الشخصية، وبناء الصراع واكتشاف الحياة، إلى أن صارت أغلبها أشبه بسلسلة من المسلسلات التلفزيونية التي تكرّر مقولاتها وتحدد فضاءها المسرحي المقتصر على الحرفية والمقولات السياسية التقليدية. وفي الوقت الذي يقر فيه الكثيرون بأزمة النص المسرحي، يراها فريق آخر على أنها قضية مفتعلة على العموم؛ لأنها ليست أزمة نص بقدر ما هي أزمة ثقافية انعكست بنفسها على أزمة النص وأزمة المسرح معاً، ومع معقولية هذا الطرح ومنطقيته، فربما نراه توسيعاً للأزمة كنوع من الهروب. حال المسرح بخير لكن الإشكالية في السياق العام، وهو طرح يغفل أن معضلات المجال العام ما هي إلا نتاج لمعضلات أصغر أو أقل، فالوضع الثقافي المتراجع، مثلما هو سبب في أزمات المسرح، هو تمظهر لوضع الأخير إلى جانب أوضاع الرواية والشعر والنقد والكتابة الأدبية والفكرية في العموم.

الترويج حل

نعم لدينا كتاب مسرح في العالم العربي جيّدون، والكتابة المسرحية قائمة ومتواصلة، بإمكانك مثلاً رصد أعداد المتقدّمين لمسابقات التأليف، وكذلك مسابقات العروض، فمن أين تأتي الأخيرة دون وجود نصوص؟، مع أن أغلب العروض تقتصر على المهرجانات والاحتفالات الكرنفالية التي تمتد لأوقات قصيرة، وتستهدف جمهوراً خاصاً، وليس الجمهور العام. كما تظل أزمة النشر والتداول مطلّة برأسها. ففي مصر لا نكاد نذكر دور النشر التي تُعنى بإصدار النصوص المسرحية، عدا جهتين حكوميتين هما الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، واللتان تخصصان سلسلتي نشر للكتابة المسرحية. يتحجّج أغلب مسؤولي دور النشر في امتناعهم أو على الأقل عدم اكتراثهم بالأعمال المسرحية، بأننا بتنا نعيش «زمن الرواية»، وأصبحت عملية نشر النصوص المسرحية مغامرة تجارية، أو عملية خاسرة لا تدرّ أي ربح وأحياناً لا تجني الدور تكاليف الطباعة والنشر، ما يعني أن الأزمة من وجهة نظرهم مادية محضة، وبالتالي يمكن حلها من خلال الدعم الرسمي لهذه الدور وتشجيعها على نشر النصوص، شريطة الاعتناء بعمليات الترويج والتسويق، فمثلما ينشد القارئ تلبية احتياجاته من الإصدارات التي يقرر شراءها، يسعى بالمثل إلى حيازة الرائج والمنتشر، ومع الوقت ربما يعود إلى مداولة قراءة النص المسرحي والبحث عنه.

أزمة عالمية

على صعيد آخر، هناك من يرى أن أزمة النص المسرحي ظاهرة عالمية وليست خاصة بالمسرح العربي فحسب، وتخطيها يحتاج إلى تطوير القوانين والأنظمة في البلدان العربية، ومنح العاملين في المسرح حقوقهم كافة. وهي رؤية تشبه إلى حد كبير ما يراه الغربيون بشأن تعرض المسرح في أوروبا لأزمة على المستوى المؤسسي، والحاجة الملحة إلى إجراء بحث قوي في التكوين المعقد للعوامل التي تؤدي إلى تحولات كبيرة في طريقة فهم المسرح، وتنظيمه وتقديمه وتلقّيه. الهدف السابق دفع بالباحثين كريستوفر بالم، وتوني فيشر، إلى تأليف كتاب «المؤسسات المسرحية في أزمة.. وجهات نظر أوروبية»، للوقوف على العوامل التي يمكن القول إنها الأكثر شيوعاً في الأزمة المؤسسية للمسرح الأوروبي اليوم.

ومع هذه العالمية، يدافع بعض المسرحيين عن أهمية تحديد الفوارق بين المسارح من ثقافة لأخرى؛ بل من بلد إلى آخر. فالأزمة في القارة العجوز ليست هي نفسها في أمريكا اللاتينية. وفي العالم العربي تتنوع أشكال أزمة النصوص من المشرق إلى المغرب، ومن مصر إلى الشام والعراق، فكما أن المسرح مسارح شتى، فإن الأزمات أيضاً متنوعة ومتباينة ويفارق بعضها بعضاً.

عمل مستمر

مع تشخيص الأزمة على نحو دقيق، تبدأ رحلة التجاوز الفعلية؛ الأمر الذي يتطلب نفساً طويلاً وتخطيطاً وعملاً مستمراً ومتواصلاً، يبنى بعضه فوق بعض، دون أن نفكّر في إعادة اختراع العجلة مرة أخرى، ومن ثم التعامل مع فن المسرح بوصفه جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، ذلك المجتمع الذي يستحق أبناؤه «منتجاً فنياً» يشبع حاجاتهم الفنية والإنسانية.

وكي نعيد للنص المسرحي بريقه، فمن المؤكد أن البداية ستكون مما قبل النص، فالمؤلف يكتب نصوصه من أجل العرض في المقام الأول، والعروض تحتاج إلى فضاءات ومؤسسات ترعاها وتنتجها، أو كما يقول الناقد المصري الراحل محمد مندور في كتابه «في المسرح المصري المعاصر»: «فن التمثيل لا يمكن أن ينهض بدون فن المعمار، فلا بد أن تفطن الدولة إلى أهمية بناء مسارح لا في العاصمة فحسب، بل في كافة عواصم المديريات ومراكزها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3hku5xed

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"