التحوّل الصعب في البرازيل

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

تصاعدت أدوار الدّيكتاتورية في المشهد السياسي للبرازيل خلال منتصف ستينات القرن الماضي، قبل حدوث نوع من الانفراج والانفتاح، مع تراجع مكانة المؤسّسة العسكرية في الحياة السياسية، وبخاصة مع إصدار دستور 1988 الذي دعّم مسار الانتقال الديمقراطي ورسخ مبدأ فصل السّلطات.

وهو ما مهّد الظروف لإجراء انتخابات رئاسية في عام 1989، بعدما تزايدت حدة الاحتجاجات التي قادها العمال في عدد من القطاعات، مطالبين باعتماد إصلاحات سياسات، وأخرى متصلة بتأهيل مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.

أسهمت العديد من العوامل والمقومات في إنضاج تجربة التحوّل الديمقراطي في البلاد بشكل كبير، وهو ما أهل البرازيل لكي تحقّق نمواًَ اقتصادياً ملحوظاً على امتداد عدة سنوات، استفادت فيه من أجواء الاستقرار السياسي التي سمحت بمراكمة الكثير من الإصلاحات.

وكان للتوافق الذي حدث بين مختلف القوى السياسية الديمقراطية من جهة أولى، والمؤسسة العسكرية التي بدأت تستوعب أهمية إقرار نظام مدني ديمقراطي من جهة ثانية، الأثر الكبير في هذا السياق. حيث تعهدت المؤسسة العسكرية باحترام نتائج الانتخابات، فيما بدأ إعمال مجموعة من المبادرات، من قبيل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، واعتماد التّعددية الحزبية والسياسية..

وهكذا تمّ إصلاح التّشريعات الحزبية والانتخابية، بصورة دعّمت المشاركة السياسية، ووفّرت قدراً كبيراً من شروط التنافسية والشفافية، كما تمّ تطوير أداء المجتمع المدني الذي كان يعاني انغلاقاً وجموداً كبيرين.

وقد حرص الرئيس «لويس إيناسيو لولا دا سيلفا» على بلورة تواصل بنّاء مع مختلف الفاعلين، كما نجح في إرساء مناخ الثقة مع مختلف الفعاليات المعارضة، وذلك بالسعي إلى تجاوز الممارسات الإقصائية، واحترام الأسس الديمقراطية، مع التركيز على مواجهة المشاكل الاقتصادية المطروحة، وإعمال إصلاحات بناءة في هذا الصدد، مكّنت البلاد من تجاوز الكثير من الإكراهات، ومن سدّ الكثير من الديون الخارجية المستحقة للمؤسسات المالية الدولية، ومراكمة جهود مهمة على مستوى تخليق الحياة العامة.

أما في ما يتعلق بالعوامل الخارجية التي كان لها دور مهم في دعم التحوّل في البرازيل، فنستحضر انهيار «الاتحاد السوفييتي»، وتراجع سياسة الاستقطاب الدولي التي كلّفت أمريكا اللاتينية هدر الكثير من الوقت والجهد خلال سنوات الحرب الباردة، بفعل الضغوط الأمريكية. كما لعبت المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي، دوراً كبيراً في تعزيز الضغط في هذا الاتجاه، وذلك بربط منح القروض والمساعدات المالية بمجموعة من الشروط في علاقة ذلك بتعزيز الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

كما لا تخفى التداعيات التي فرضها المحيط الإقليمي في هذا الخصوص، وذلك أخذاً بعين الاعتبار آثار التجربة الأرجنتينية على مسار التحوّل في البرازيل، علاوة على التوافق إلى حدّ كبير في تحديد العلاقة بين القطاعين المدني والعسكري، بعيداً عن كل مظاهر الهيمنة والتداخل.

وفي سياق موجة اليمين التي تصاعدت في مناطق مختلفة من العالم خلال السنوات الأخيرة، تنامى هذا التيار داخل البرازيل مع وصول «جايير بولسونارو» المعروف بانتمائه للتيار اليميني المتطرف إلى الحكم، حيث تنكّر لعدد من المبادئ الديمقراطية، وقام بالترويج لعدد من الأفكار المتطرفة كحمل السلاح، فيما كرّس معاملة صارمة مع كل الأصوات المعارضة، علاوة على تعامله غير المسؤول مع الانعكاسات التي خلفتها جائحة «كورونا».

في بداية شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي وفي أعقاب انتخاب «لولا دا سيلفا» رئيساً للبرازيل مرة أخرى، قام عدد كبير من أنصار الرئيس السابق «بولسونارو»، باقتحام عدد من المؤسسات الدستورية كمقر الرئاسة ومبنى الكونغرس والمحكمة العليا، كما قاموا بقطع الطرق في عدد من المناطق بالبلاد، مطالبين بإلغاء نتائج الانتخابات التي تمخض عنها فوز «لولا» بمنصب الرئاسة مرة أخرى، وبتدخل الجيش، ضمن خطوة مثلت ضربة لما حققه هذا البلد من منجزات وإصلاحات سياسية واقتصادية.

وعلاوة على الرفض قوبلت به هذه الممارسات من طرف عدد من القوى الديمقراطية داخل البلاد، توالت ردود الفعل الدولية الصادرة عن عدد من دول أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة وكندا وأوروبا.. التي عبّرت في مجملها عن إدانتها لهذه التوجهات التي تقوّض الديمقراطية في البرازيل.

رغم أن التحوّل في البرازيل لم يكن فجائياً، بقدر ما كان نتاجاً لمسار طويل، إلا هذه المحطة، تمثل ناقوس خطر وتبرز أن الديمقراطية في البرازيل، ما زالت بحاجة إلى تعميق وترسيخ أكبر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ywsnkmer

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"