واقع بتوقيع النخب

00:32 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يوجه المفكر الأمريكي موريس بيرمان في كتابه «انحطاط الحضارة الأمريكية» نقداً لاذعاً لمختلف عناصر الثقافة في الولايات المتحدة، فمن التعليم إلى الأدب مروراً بالسينما ونوعية الكتب المقروءة والفنون. ويرى بيرمان أن الحضارة في أمريكا تتراجع إلى مستويات غير مسبوقة.

يستند الكاتب إلى عدة إحصائيات ذات دلالة، تقول إحداها إن 60 % من الأمريكيين لم يقرؤوا أي كتاب في حياتهم، وتذهب أخرى إلى وجود 120 مليوناً يقرؤون بمستوى الصف الخامس، وهناك إحصائية ثالثة تؤكد أن 21 % يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض، هذا بالإضافة إلى أرقام عديدة أخرى ذات دلالة. يلفت بيرمان أيضاً أن الإعلام والسينما «يحوّلان الناس إلى قطعان من المجانين، وأننا لن نجد في المستقبل القريب من يستطيع قراءة ماركس أو داروين أو دستويفسكي أو تشارلز ديكنز».

الكتاب تقرير مطول عن أمريكا الأخرى التي لا نعرفها، عن مفعول وتأثير فيلم «فورست جامب»، الناجح جداً، ولكنه يمنح البطولة لشخصية أبله، وعن طلاب الجامعة الذين يفشلون في كتابة رسالة قصيرة بلغة سليمة، عن تحويل المعرفة إلى سلعة والثقافة إلى ترفيه.

كتبٌ عديدة باتت تصدر في العقود الأخيرة، وتعالج الفكرة نفسها، تحلل واقع البشر العاديين، ومستواهم الثقافي والفكري، ورؤيتهم العلمية وأطروحاتهم حول التقدم. كتبٌ تثبت أن ما اعتدنا قراءته عن أمريكا بوجه خاص أو الغرب بوجه عام كان يصور لنا حياة النخبة، ومنتجها المعرفي وما تود أن تصدره للعالم عن نفسها.

التجربة الغربية في الثقافة أو الحضارة كما ترسخت في أذهان معظم المثقفين العرب كانت معجزة، وفي الكثير من كتاباتنا العربية حتى الآن يبدو أن هذه التجربة فارقة وغير قابلة للتكرار على المستويات كافة، وهي نتيجة لا تصدق على الحاضر وحسب، ولكن تمتد إلى التاريخ أيضاً، فمقدمات راهن الغرب في المخيال الثقافي العربي يتضمن فصولاً ناصعة من التاريخ تضم: النهضة والتنوير والكشوف الجغرافية والثورة العلمية، كما هو متوافر في مئات المراجع.

الملاحظ أن من وجّه نقداً إلى الغرب من المفكرين العرب، استند دوماً إلى كتابات غربية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، أي أننا لم ندرس الغرب بعيون عربية حتى الآن، لم يتأسس في ثقافتنا المقابل لعلم الاستشراق، أو ما أسماه حسن حنفي يوماً «علم الاستغراب»، ذلك العلم الذي كتب حنفي مقدمة له، ولكنها كانت مقدمة تاريخية مغرقة في الفلسفة أولاً، وتدور في فضاء النخبة ثانياً، ومدعمة بوجهات نظر نقدية من داخل الغرب نفسه.

يتبقى في النهاية أن مثل هذه الإحصائيات التي يوردها بيرمان وغيره لا يجب أن تشعرنا بالعزاء، لا يجب أن ندافع مثلاً عن تراجع معدلات القراءة في عالمنا العربي بالقول: «لسنا أسوأ من أمريكا»، ففي مقابل ذلك هناك شرائح واسعة من النخب يدعمها تراث طويل من القراءة والكتابة، وهو ما نفتقده هنا، علينا أن نتأمل كل ثقافة وفقاً لظروفها وتحولاتها وما تتطلع إليه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mvk8jhhb

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"