حديقة أوروبا المضطربة

00:17 صباحا
قراءة دقيقتين

فاقمت تداعيات الحرب في أوكرانيا سلسلة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بمختلف أنحاء القارة الأوروبية، ولم تعد القارة العجوز «حديقة» وبقية العالم «أدغال» كما وصفها جوزيف بوريل مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعد أن اهتزت على وقع الاحتجاجات والتظاهرات والإضرابات التي تشل معظم قطاعاتها الحيوية.

صحيح أن جذور بعض تلك الاحتجاجات تعود إلى الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا، إلا أن تداعيات الحرب الأوكرانية عمقت من أزمات القارة ونقلتها إلى مستويات جديدة، من بين عوامل أخرى، تتقدمها تداعيات «بريكست» كما في الحالة البريطانية.

وإذا ما استثنينا العوامل السياسية، بما في ذلك المساعدات لأوكرانيا، والهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي، والقوانين الخاصة التي تسمح بإنعاش الاقتصاد والاستثمارات الأمريكية على حساب الشركات الأوروبية، يمكن اختزال سببين رئيسيين كمحرك مباشر للإضرابات الأوروبية، هما موضوعا الطاقة والغذاء، المرتبطان ارتباطاً وثيقاً بما يدور في أوكرانيا. فالعقوبات الغربية على روسيا أدت في النهاية إلى توقف إمدادات الغاز والنفط الروسي إلى أوروبا، أو تقليصها إلى مستويات دنيا، بينما ارتفعت كلفة توريد الغاز والنفط من مصادر بديلة أضعافاً مضاعفة، وبات الغاز الأمريكي يباع لأوروبا بأربعة أضعاف السعر عما كان عليه الحال بالنسبة للغاز الروسي، لترتفع بذلك أسعار المحروقات والمواد الغذائية. وهي كلفة باتت تدفع ثمنها الشعوب الأوروبية وشرائحها الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين احتياجاتها الضرورية لمواصلة العيش، ما أدى إلى انفجار الأوضاع واندلاع الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات في الشارع، وبالتالي إلى شل الكثير من القطاعات الإنتاجية والخدماتية الحيوية.

والأسوأ أن الحكومات، بدورها، لم تعد قادرة على كبح جماح التضخم، الذي وصلت نسبته في بعض الدول إلى أكثر من 10.5 في المئة كما في بريطانيا، أو زيادة الأجور للعاملين في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية، لتمكينها من تغطية نفقاتها وسد الفوارق الكبيرة الناجمة عن ارتفاع الأسعار. هذا الواقع المضطرب شكل عبئاً إضافياً على اقتصادات الكثير من دول القارة. ففي بريطانيا، كما يوضح مكتب الإحصاء، سجل 1.6 مليون يوم عمل «ضائع» منذ بدء الاحتجاجات في يونيو (حزيران) الماضي، وشلت حركة الإنتاج في العديد من القطاعات، وتوقفت الخدمات بما في ذلك حركة القطارات والبريد والصحة والتمريض والتعليم وغيرها، وسط توقعات بمزيد من الركود الاقتصادي مع انكماش بنسبة 0.6 في المئة. وفي فرنسا خرجت تظاهرات حاشدة في مختلف المدن والبلدات الرئيسية، ليس فقط رفضاً لخطة الحكومة برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، حيث يرى العاملون والموظفون أن الحكومة تريد منهم العمل أكثر من دون مقابل، وإنما أيضاً على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.

هذه الاضطرابات ليست ناجمة عن غزو «أدغال العالم للحديقة الأوروبية»، كما يعتقد بوريل، وإنما هي فعل ذاتي ناجم عن السياسات الأوروبية التي ترى النيران مشتعلة على أطراف القارة العجوز، وتسعى بدلاً من العمل على إخمادها إلى تأجيجها وربما مدها إلى قلب تلك القارة التي باتت مثقلة بالأزمات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8658pc

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"