عادي

بينالي الشارقة.. وللجمال ذاكرة

23:18 مساء
قراءة 5 دقائق
عمل مشارك في دورة سابقة في البينالي
جانب من دورة سابقة للبينالي

يوسف أبولوز

قبل المرور شبه التاريخي والإشارة إلى الظواهر الجمالية والفنية والثقافية التي يمكن قراءتها في ذاكرة بينالي الشارقة الذي تأسس عام 1993، تجب الإشارة إلى ما يمكن تسميته «ما قبل البينالي»، وبالتالي تستتبع هذه العبارة عبارة أخرى بالضرورة هي «ما بعد البينالي».

أما «ما قبل البينالي» فهو بالضرورة نشاط وعمل جمعية الإمارات للفنون التشكيلية التي تأسست في الشارقة عام 1980 على يد مجموعة محدّدة من الفنانين الإماراتيين، والفنانين المقيمين في الدولة، وأذكر أنه من المتحمسين لعمل الجمعية وضرورة بلورة كيانها الإداري والتنظيمي كان الفنان حسن شريف الذي عاد إلى الإمارات بعد دراسته للفن في بريطانيا عام 1984 أو 1985.

وسوف تستوعب الجمعية كل التجارب الفنية الجادة آنذاك، وتوفر لها مساحة عرض ستعرف في ما بعد ب«المعرض السنوي العام للفنون التشكيلية».

إذاً ما يمكن توصيفه ب«ما قبل البينالي» هو بالضبط عمل ومعرض وكيانية جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وستكون الدورات الأولى من معرض الجمعية مهتمة أساساً باللوحات المسندية أو الجدارية «المعلقة»، وتالياً تشارك في المعرض أعمال نحتية وحروفيات وزخرفيات، ثم شيئاً فشيئاً يستقطب معرض الجمعية ما يمكن أن يسمى «الأعمال المفاهيمية» اليدوية تحديداً، وهي باختصار تجربة حسن شريف الذي انتقل من اللوحة المعلّقة إلى «العمل الفني» وموادّه بسيطة ويومية ومتاحة: الخيوط والأسلاك وصفائح الكرتون، والحبال والقماش والمعادن والخشب، والأزرار والخيط.. كل شيء متاح في العمل الفني، وكل شيء يمكن أن يتحوّل إلى عمل فني، وسنعرف لاحقاً بعد سنوات طويلة أن هذه الأعمال الفنية التي كان يعمل عليها حسن شريف وشقيقه حسين شريف، ومحمد أحمد إبراهيم، وعبدالله السعدي، ومحمد كاظم، ستكون هي الأساس في ثقافة وفكر بينالي الشارقة الدولي للفنون التشكيلية.

غير أنه من المهم أن نذكر دائماً بالجمعية ومعرضها وفنّانيها الثمانيين والتسعينيين م ن الإماراتيين والعرب المقيمين (طلال معلّا، وعبداللطيف الصمودي، ود. عبدالكريم السيد، والأخوان الدويك، وحيلوز، وغيرهم) ممن وفّرت لهم الشارقة كل سبل الإبداع والملائمات المادية والمعنوية والنفسية لإنتاج فنون إنسانية جمالية راقية.

في عام 1993، كما ذكرنا قبل قليل تأسس بينالي الشارقة الذي ينعقد دورياً كل عامين، وتعرض فيه نخبة من الفنانين الإماراتيين والعرب والعالميين، وكانت الدورات الأولى من البينالي قد احتفت بالعديد من التجارب التشكيلية الإماراتية التجريبية والتقليدية والحداثية أو لنقل «الجديدة»، وأصبح من الواضح أن البينالي بات يشكّل فضاء رحباً لعرض الأعمال الفنية الإماراتية التي أخذت «طريقها» إن جازت العبارة إلى وضعها الراهن من خلال الجمعية، لكن مهما كانت الجمعية «كياناً» للفنانين وعضويتهم وتقييم أعمالهم حين تعرض في معرض الجمعية، فإن البينالي يظل «مؤسسة» مختلفة تماماً عن أي صيغة فنية أو إدارية، وباختصار البينالي في الأساس هو جزء مهم من تكوين مشروع الشارقة الثقافي، له رؤيته وإدارته وتنظيمه، وفضاءاته الدولية، وحين تسلمت الشيخة حور القاسمي إدارة البينالي نقلته نقلة فنية وفكرية وفلسفية نوعية ذات صلة بثقافة البيناليات المعاصرة والعالمية.

ومن خلال بينالي الشارقة، وعلى يد الشيخة حور الفنانة المثقفة والإدارية العلمية والعملية أخذنا نطل على أعمال فنية محلية وعربية وعالمية تعود في بناءاتها إلى ما يسمى «الفيديو آرت»، و«عروض الأداء» والأعمال التركيبية، والمواد الفيلمية، وتوظيف الضوء والموسيقى والمواد في العمل الفني، ثم أخذنا نتعلم من البينالي في الشارقة ثقافة أخرى هي إن جازت العبارة «ثقافة العرض في أكثر من مكان».. لم يعد مكان العرض هو المكان المحدّد في صالة العرض أو مكان العرض فقط؛ بل أخذنا نشاهد أعمالاً بنائية تركيبية ضخمة وصغيرة ومتوسطة الحجم في أماكن عروض مفتوحة، في الهواء الطلق وفي الساحات وفي الأسواق، وفي قلب المدن وقلب الأماكن، لتنسجم كل هذه الحالة «العرضية» مع طبيعة الأعمال الفنية الجديدة والمعاصرة والفكرية والتأملية، وفي الوقت نفسه هي أعمال جمالية.

وبلا شك فإنها كانت نقلة كبيرة في عروض البينالي، مختلفة عن الأسس التي كانت تتبّعها الجمعية أو تتبعها أي جهة عرض إماراتية، فالبينالي مؤسسة ثقافية قائمة على أفكار ورؤى وفلسفة وطروحات تشارك فيها نخب عالمية ليست بالضرورة أن تكون نخباً رسّامة؛ بل هي نخب فكر وفلسفة وثقافة.

انفتاح

نقلت الشيخة حور بينالي الشارقة إلى الانفتاح على فنون العالم وثقافاته البصرية وتكويناتها التشكيلية الكبرى القائمة مرة ثانية على عقول فكرية ناقدة.

أيضاً سيعزّز بينالي الشارقة ثقافتنا التشكيلية ذات الصلة بظاهرة أو بتقليد عالمي وهو «المقيم»، والمقيم الفني في رأيي الشخصي هو بمثابة «المايسترو» الذي يقود «أوركسترا العرض» الفني كلّه من اللوحات الجدارية، إلى الأعمال التركيبية إلى أعمال الفيديو.

إن «المقيم» ليس حكم كرة قدم أو حكم لعبة فنية. إنه مثقف تشكيلي يمتلك رؤية وقناعات وأفكاراً، وهو يقرأ العمل الفني بأدوات ومن زوايا عدة مختلفة تماماً عن قراءة صاحب العمل الفني نفسه.

«المقيم» علم جمالي فكري قائم بذاته، والشيخة حور نفسها تمتلك طاقة المقيم ومهاراته، وفي مقابل كل هذه الحالة الثقافية الجديدة، علينا نحن غير المختصين في الفنون، وبخاصة الفنون التشكيلية المعاصرة ألا نقف مكتوفي الأيدي ونكتفي بموقف المتفرج؛ بل علينا الاقتراب من الفن ومن ظاهرة البينالي نفسها، والبينالي كما قلنا عمود من الأعمدة الأساسية لمشروع الشارقة الثقافي، وبالمناسبة عزّز مشروع الشارقة الثقافي لدينا وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً ثقافة المسرح عن طريق تظاهرة أيام الشارقة المسرحية، وعزّز المشروع لدينا ثقافة الكتاب وثقافة القراءة عن طريق تظاهرة معرض الشارقة الدولي للكتاب، وفي السياق نفسه، نجد أنفسنا منذ 1993 إلى اليوم، وقد تعزّزت لدينا ثقافة الفنون التشكيلية والبصرية والخطوطية والحروفية، والفنون الإسلامية، والأعمال النحتية وجماليات المعمار؛ بل وجماليات الآثار العتيقة العريقة، فإذا قسنا هذه النتائج بأدوات التراكم مثلاً، فإن بينالي الشارقة يدخل وسيدخل عقده الثالث وقد راكم العديد من الظواهر الجمالية.

كما راكم فهمنا الشخصي للوحة، وللفن بشكل عام ضمن بيئة حرّة فعلاً في الإمارات توفر مثلاً أكثر من 200 صالة عرض تتنافس أو قل تسارع إلى استقطاب تجارب فنية عالمية ذات ثقافة جمالية رفيعة.

بالطبع نظل في إطار بينالي الشارقة ودعني اقرأ سريعاً بعض «الثيمات» أو بعض «العناوين» لعدد من دورات البينالي كجانب آخر من جوانب التراكم الثقافي الذي حققه البينالي في ثلاثة عقود من الزمن، موازية لعقود المسرح والكتاب وثقافة القراءة في الإمارات، وفي الشارقة على وجه الخصوص.

تحمل هذه الدورة من البينالي عنوان «التاريخ حاضراً»، وتستمر حتى السابع من يونيو المقبل؛ أي أن عروض دورة البينالي هي في متناول الرؤية والمشاهدة على مدى أربعة أشهر وفي أماكن عديدة في الشارقة ذات طابع غير مغلق، كما أشرت إلى ذلك، ولعلّها واحدة من أهم ميزات العرض في بينالي الشارقة، وربما لا تتوفر في أي بينالي آخر في العالم، وعلى أي حال لنبق في إطار «العناوين» أو «الثيمات»، فالدورة الرابعة عشرة اتخذت عنوان «خارج السياق»، وكان عنوان الدورة الثالثة عشرة «تماوج»، وجاء في شرح هذا العنوان أنه يعبّر عن 4 ثيمات هي: الأرض والمحاصيل، والمياه والطهي. وجاء عنوان الدورة الثانية عشرة «الماضي.. الحاضر.. الممكن»، في حين جاء عنوان الدورة الحادية عشرة «نهوض.. نحو خارطة ثقافية جديدة»، ومن أرشيف البينالي كان عنوان الدورة التاسعة «احتمالات لزمن مقبل»، وجاءت الدورة السابعة تحت عنوان «الانتماء».

ولعلّي أريد القول من وراء تتبع هذه «الثيمات» والعناوين إن للبينالي ذاكرة، وللبينالي سياقات فكرية وثقافية وجمالية ومعرفية.

تظاهرة

بينالي الشارقة ظاهرة فنية، والمهم هنا أنه حقق خصوصيته الفكرية والنقدية والانتقائية بين بيناليات العالم، ومن هذه الخصوصيات لقاء مارس الذي ينعقد في كل دورة بموازاة فعاليات البينالي، واللقاء في حدّ ذاته تظاهرة فكرية مشدودة إلى ثقافة الفنون التشكيلية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4w4bn57b

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"