أيديولوجيا الكذب

00:27 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

كتَب الكثير من الفلاسفة عن الكذب، حللوه من مختلف الزوايا، وكان مبحثاً لافتاً في علم الأخلاق، وأداة تحليلية في تأملاتهم حول فكرتي الصدق والحقيقة. ومع تغول وسائل الإعلام، كتب العديد من المهتمين بتأثير وسائل الإعلام عن دورها أحياناً في الكذب الذي تمارسه بأساليب مختلفة، ورصدوا تأثيرها في العقل وقدرتها على إخفاء الحقائق وتحريفها وتشويهها من خلال آليات وتقنيات متعددة.

ولكن ماذا إذا قلنا إن العالم بأكمله، بمفرداته كافة مكون من أكاذيب. في العقد الأخير صدرت عدة كتب تتناول الكذب من زوايا متباينة، ومن هذه الكتب «تاريخ الكذب» للمفكر الإسباني خوان مونيوث رنخيل، وهو يرصد الكذب أفقياًَ ورأسياً، عبر التاريخ. وفي الواقع، لقد تعلم الإنسان الكذب منذ وجوده على الأرض، بداية من خداعه للطبيعة حتى يتمكن من الاستمرار والنجاة من مخاطر الطبيعة التي تحيط به. والكذب وفق رنخيل في كل مكان، هو الهواء الذي نتنفسه وبإمكاننا تلمسه في: الأفكار، المجتمع اللغة، السياسة، الأدب، التاريخ، والحب..الخ؛ حيث تتأسس كل هذه الحقول على كذب واضح لا يحتاج إلى جهد كبير لكي نكتشفه، ليس هذا وحسب؛ بل إن تعبيرات وجوهنا ومشاعرنا وأحاسيسنا بدورها كاذبة، لتتحول الحياة نفسها في نهاية الكتاب إلى أكذوبة كبرى.

لم يعد الكذب مشكلة أخلاقية وحسب، و مضى الوقت الذي كان بإمكان البعض رصده في الإعلام أو التاريخ أو لدى بعض الساسة، لكنه يشمل الآن كل ما يتفاعل معه البشر، هنا تختفي الحقيقة، ويضيع المعنى، وتغيب القيمة، فلا جدوى من أي شيء، طالما جميع الأشياء كاذبة.

إن خطورة أطروحة رنخيل وغيره، أنها تترجم رؤى ما بعد الحداثة، فالكذب يرسخ الفردية المطلقة، تلك التي تقترب من العبثية، فعندما لا توجد حقيقة أو فكرة كبرى تجمعنا، فلكل إنسان أن يتمترس خلف رأيه أو وجهة نظره التي لا تقبل بدورها التقييم من قبل أحد، ولسان حال الفرد يقول «رأيي هو الصواب المطلق ورأي غيري هو الخطأ بعينه»، على الرغم من أنه لا يمتلك المهارات أو المعلومات التي تجعله يطرح هذا الرأي أو يتمسك به، وعندما يفعل كل إنسان ذلك فلا حاجة في المجتمع لمن يمتلك المعلومة أو الخبرة أو القدرة على التقييم، لا حاجة إلى نخبة أو نقاد أو مفكرين، وفي السلوك المجتمعي سيؤدي ذلك إلى الأنانية فطالما كل القيم كاذبة فهل هناك أهمية للتعاون أو الإيثار أو مساعدة الآخرين؟ هو التأثير السلبي الذي يشمل الجميع.

تنسجم فكرة رنخيل، مع مواقع التواصل الاجتماعي وما يدور فيها من جدال لا ينتج شيئاً، ومع الواقع الافتراضي الذي نعيشه، وتنتمي إلى أيديولوجيا العولمة في أقصى تجلياتها للهيمنة على رؤانا وسلوكياتنا. فالمطلوب إنتاج إنسان مسطح، لا همّ له إلا الاستهلاك، ولا يتوقف أمام فكرة.. يتأملها ويحاورها ويوافق أو يعترض عليها، فالهدف الأسمى لتلك الأيديولوجيا أن لا نلتفت أصلاً إلى الأفكار، وكيف نفعل ذلك وكلها كاذبة؟!.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39x852fr

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"