حكّ الرؤوس الصوّانية في لبنان

00:53 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

يُضاعف الحبر سواده بعد الزلزال الكارثي في سوريا وتركيا، ويرصد «تفشي الذعر والضياع في سلوك اللبنانيين المسكونين بالرعب»، كما علّقت طبيبة نفسية لتعيدني نصف قرنٍ إلى الوراء، أي 1973 التي بذرت حروباً أطبقت على الأحلام والكيان ولبنان.

كان لبنان يسترق نتائج الاجتماع الخُماسي (الفرنسي الأمريكي السعودي المصري القطري) في باريس قبل أيام، لكن الكرة سقطت أشبه بقنبلة فوق ملعب الداخل محشوة بارتدادات عدم التوافق، وعدم صدور بيان ختامي. هو اجتماع سياسي تقني لا يمكن أدراجه في خانات التفاوض والمساومة والتوصيات المجدية والحلول، أو انتظار القرار المؤجّل، بعدما انخفض مستوى التمثيل وانحصر الأمر بالتشاور في مستقبل لبنان الغائب الرافض للتحاور بانتظار مؤشّر سبّابة دولية في عالم مسكون بحروب أوكرانيا وروسيا والعالم.

أمامي للمناخ المذعور، موسوعة من 5 أجزاء عنوانها: «سلسلة الوثائق الأساسية للأزمة اللبنانية» في 2112 صفحة، لمؤلفها عماد واكيم. تتضمّن 704 وثائق يمكن التذكير بها كواجب وطني يتجاوز الكيديات المذهبية التي ينغمس فيها المسؤولون، متناسين التاريخ الدموي العنيف والتدميري. لا يقيمون وزناً لمستقبل وطنهم المحبط في الداخل والخارج، ولا يتلمسون ذاكراتهم وقد دمغتها الحروب المقيتة وحقائق التاريخ الرهيب الذي كابده اللبنانيون من 1973 حتى 1989، وهم يمطّون نزاعات الماضي والانشقاقات مجدّداً مستعيدين ملامح وطن أكثر شراسة وخراباً.

أناشد الزعماء والسياسيين، مهما اختلفت مواقفهم، تصفّح الموسوعة التي تغلّف تواريخ ضحاياهم والدمار. تكفي المقارنة بين عناوين الموسوعة بأجزائها الخمسة لتمهر مقالك وعقلك بتاريخ يُعيد نفسه مضاعفاً، وبمؤشّرات واضحة أمامك. كنت، وما زلت أنصح بها طالباتي وطلاّبي كسفرٍ من أسفار التوبة الأبدية في لبنان. جاء الجزء الأوّل بعنوان «ملامح الأزمة وانفجارها والدور الفلسطيني والدور المحلي 1973....» في 176 وثيقة بالغة الأهمية، وتضمّن الجزء الثاني بعنوان «الأدوار الإقليمية في لبنان 1973....» 175 وثيقة، أما الجزء الثالث بعنوان «الأدوار العالمية....» ففيه 98 وثيقة، وحوى الرابع بعنوان «مواقف الأطراف ومشاريع الحل...» 129 وثيقة. أمّا الجزء الخامس والأخير فحمل عنوان: «الحوار في سبيل الحل 1975- 1984»، أي 9 سنوات من التفاوض العقيم، المحلي والإقليمي والدولي، في 126 وثيقة تهدف كلّها لتخليص اللبنانيين من جحيم الحروب التي دمّرت لبنان، وأسماها غسّان تويني رحمه الله ب«حروب الآخرين على أرض لبنان»، صارخاً في وجه الأمم: «دعوا شعبي يعِش». كانت بحاراً لا سنينَ من حروب ودماء لم تبقِ، ولم تُذر، لكنّ بذورها كانت من داخل رؤوس حامية صوّانية في وطن صغير شرّع الأبواب والجبال نحو كلّ خارج. تُطرح البذور السوداء مجدداً في الأرض وتُروى، وقد تبزغ من جديد مدمّرةً لبنان ومستقبل أجيال اللبنانيين الطريّة.

حاولت مع مجموعة من الزملاء الإشارة إلى هذا السفر التوثيقي الدقيق لدى بعض السياسيين تذكّراً، وتنبيهاً لما كان إدراكاً وخوفاً وتطويقاً لما سيكون أضعاف أضعافاً، وعملنا على دوران أحجار الطواحين السياسية والإعلامية في الداخل والخارج حول فكّ عقدة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان وصلاحيات رئيس الحكومة والحكومة، وتشرذم الدستور الباقي يتيماً منذ ولادته في الطائف 1989، وترميم الانشقاقات الحاصلة فيالق تتوسع بين المذاهب في زمن حقير من الانحطاط السياسي والنقدي والمالي والاجتماعي والتربوي والجامعي، والذي يستحيل تطويقه من دون تصفّح الماضي، لكننا وجدنا أنفسنا في أفخاخ مهدورة متواصلة من الأشواك والأحقاد، إلى طوفان من النصوص والأفكار والمواقف التي لا تقول شيئاً، حافلة بالتناقض والرفض والأنانيات والكيديات والانشقاقات والادعاءات المرضية ورسم الفيالق الهائلة المتورّمة بين شخصيّات سياسية سبع هي هي ما زالت متعددة المشارب والمواقف والمذاهب، يتبعها بعض البرلمانيين ورؤساء كتل برلمانية وزعماء أحزاب طائفية ومرجعيات دينية ومذهبية وأجيال شبابية صافية متلاصقة ومتفرّقة وفارغة الحجج ومتصلبة المواقف أضعاف رؤوسائهم.

يُظهر كلّ فريق لجماعته وللعالم فوزه وبأنّه الأقوى والأحق انطلاقاً من متانته وتأسيساً على نقاط الضعف لدى الفريق الآخر الذي يجب أن يبدو ويبقى خاسراً، ولكنّه يكابر على إظهار النجاح. هكذا تختلط الهويات المتناقضة مجدداً بعيداً عن الحوار والتسويات والتحكيم البعيد عن مناخات الحوار والمصالحة، وقد تشبّعنا بالاستحالات وفقد التفاوض معانيه بما يظهر الخصم أبداً في مواقع السقطة والدونية والتشويه في عالم مجنون لا تعنيه الملفات والحجج والأسانيد المتقابلة، بل يغالي بانتظار الكلمة، بل الإشارة الدولية السريّة عبر سبابة لطالما تمرّست بحكّ الرؤوس الفولاذية وتحويل لبنان حقل تجارب خطير وليجترّ التاريخ الوثائق حتّى الأبد اللبناني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n6nzry2

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"