ارتدادات الزلزال تغربل الدول

01:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

في أوقات المصائب تتكشف معادن الناس، وفي أوقات الكوارث تتكشف معادن الدول، والزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وخلّف الموت والخراب فيها وفي سوريا، وأصاب لبنان والعراق واليونان، ووصلت ارتداداته إلى مصر هو من أقوى الكوارث الطبيعية خلال الألفية الجديدة، التي كشفت الدول نفيسة المعدن، أصيلة النهج، إنسانية الفكر، ولم تنتظر نداءً للمساعدة كي تلبي؛ إذ إنها بمجرد أن تعلم بكارثة أصابت شعباً تهرول للغوث والمساعدة، بعيداً عن الحسابات السياسية الرخيصة. كما أن في عالمنا دول لا تحرك فيها الكوارث العظمى ساكناً، وتفرق بين الشعوب وفق حسابات سياسية انتهازية وأفكار عقدية رثة، تصم آذانها أمام نداءات الاستغاثة، وترى الناس تموت أمامها من دون أن يهتز لها رمش، ويحكمها ساسة لا يرون ولا يسمعون ولا يتعظون مما يحدث.

الزلزال لم يزلزل الأرض تحت أقدام الأتراك والسوريين فقط، لكنه زلزل كل إنسان يعي أن الكوكب الذي يجمعنا واحد، ولا مكان فيه محصن ضد الكوارث الطبيعية، وأن ما يحدث في شرقه اليوم، قد يحدث في غربه غداً، وما يصيب وسطه اليوم يمكن أن يصيب شماله غداً وجنوبه بعد غدٍ، فالأرض ليست سوى سفينة تبحر بنا جميعاً، والكوارث أمواج عاتية تجرف بعض ركابها، لامتحان الآخرين، ومن الطبيعي أن يكون بين الناجين من يهبّون لإنقاذ المنكوبين، وبينهم القاسية قلوبهم الذين يتجاهلون الموتى وصرخات المصابين وآلام الموجوعين وحياة المهدَدين.

هذا بالضبط ما عشناه خلال الأيام الماضية، فمنذ فجر الاثنين الأسود الذي وقع في فجره الزلزال، والمعادن تتكشف وحدها وتفرز الطيب من الخبيث.

وكعادتها أكدت الإمارات مجدداً أنها دولة نفيسة المعدن، فمنذ لحظة الزلزال كان اتصال صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، بالرئيسين السوري والتركي للعزاء والتضامن والتوجيه بتقديم 100 مليون دولار، لإغاثة المتضررين في البلدين، من دون تفرقة؛ إذ لطالما كان الإنسان عند الإمارات واحداً أياً كان موطنه أو لونه أو عرقه أو دينه، وأياً كانت السياسة التي ينتهجها قادته؛ وفي ذات اليوم بدأت قيادة العمليات المشتركة في الإمارات تنفيذ التوجيهات، والبدء بعملية «الفارس الشهم 2»، لدعم الأشقاء والأصدقاء في سوريا وتركيا، بمشاركة القوات المسلحة ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية والتعاون الدولي و«مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية» و«مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية» و«هيئة الهلال الأحمر» الإماراتي، وفوراً أقلعت الطائرات التي تحمل ما يخفف بعض الآلام عن المدن والمناطق والعائلات والأفراد الموجوعين من فقدان أبنائهم وأهليهم وخسارة منازلهم وأمتعتهم، ويعالج المصابين ويسهم في انتشال الضحايا من تحت الأنقاض، وفي ذات الوقت كانت توجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، بتقديم 100 مليون دولار لإغاثة المتضررين من الزلزال في سوريا وتركيا، وكذلك توجيهات صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، بتسيير مساعدات إنسانية عاجلة للشعب السوري الشقيق بقيمة 50 مليون درهم.

إرادة العون في الإمارات ليست رسمية فقط، لكنها أيضاً شعبية؛ حيث تبدأ حملة التبرعات التي تنظمها هيئة الهلال الأحمر الإماراتي باسم «جسور الخير» لمصلحة المنكوبين من جرّاء الزلزال وتوابعه، وهو ما يكرّس إرادة غوث الملهوف لدى أبناء الإمارات، ويؤصل فيهم قيم العطاء ومشاركة الغير أوجاعه وآلامه.

في المقابل، وعلى الرغم من أن الحادث جلل، وأعداد الضحايا مفزعة ومشاهد الأنقاض مرعبة، وأوضاع المتضررين وذويهم مبكية، فإن ساسة العديد من الدول سارعوا إلى دعم الشعب التركي، وتجاهلوا الوجع السوري، وكأن 12 عاماً من القتل والتخريب في سوريا لا تكفي؛ لم يكتفوا بحصار سياسي؛ بل هم اليوم يحاصرون المنكوبين، ويعاقبون القتلى تحت الأنقاض، وكأنهم يعلنون دفن مشاعرهم الإنسانية في المقابر التي ستجمع ضحايا كل كارثة طبيعية تحل بهذا الكون!

يصرون على التعامل مع الشعب السوري وكأنه أكثر من شعب، لا يريدون استيعاب أن الكوارث تفرض التوحد، وأمامها ينبغي وضع السياسة جانباً، والتنازل عن المصالح والأطماع الضيقة، ونبذ العنصرية حتى تتجاوز الإنسانية أوجاعها من دون أن تخلّف بين الشعوب أحقاداً على أحقاد.

بالأمس أصابت كورونا الإنسانية كلها بالهلع، وبعد أن تجاوزها العالم جزئياً تناسينا كل درس كان ينبغي أن نتعلمه منها، واليوم يعطينا الزلزال درساً جديداً لنتعلمه ونحد من صراعاتنا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p85tx73

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"