القوقاز.. والصراعات المستقبلية

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

يمر عالم اليوم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بأزمات اقتصادية طاحنة وتحولات كبرى تسير بسرعة هائلة نحو تغير ثوابت الجغرافيا السياسية بشكل كبير. وعندما نتأمل أحداث القوقاز فإنها تشير دونما لبس إلى عدم الاستقرار والتيه المعقّد، جراء تراكم المخاوف من حرب قادمة بين أرمينيا وأذربيجان، حيث سيطرت مناخات تصعيد العنف وكأنها أجواء حرب مستقبلية قد تقع وتغير الواقع الديموغرافي، نتيجة التوترات الدائرة والمفزعة من الغموض والتشوش، ما سيؤدي إلى صراع عسكري بين الدولتين، وربما تلتهب المنطقة فتستدعي أطرافاً إقليمية أخرى وثيقة الصلة بالأحداث.

فمثل هذه الصراعات تبلغ درجة شديدة من التعقيد بفعل التحولات السياسية ليس في العالم فقط؛ بل في المنطقة على وجه الخصوص. وهذه الصراعات قد تجر معها دولاً متعددة تربطها علاقات متشعبة بطرفي الصراع، إما عرقية أو جغرافية، أو دينية أو سياسية، وربما تكون اقتصادية. ويمثل الصراع الأرميني الأذربيجاني حول إقليم ناغورني كارباخ، ثقباً أسود قد يؤدي إلى إحداث تغييرات جيوسياسية عميقة في تلك المنطقة، وإلى الآن ظلت روسيا هي الضامن للأمن بين الدولتين المختلفتين، بعد أن قررت القيادة الأرمينية فصم العرى مع روسيا، والاتجاه نحو الولايات المتحدة؛ لأنها ترى أن روسيا قد قصرت في الدفاع عنها خلال الحرب قبل عامين.

وقد خسرت أرمينيا آنذاك مدينة شوشا، وهي ثاني أكبر مدينة في كاراباخ، كما تم إعطاء أذربيجان منفذاً إلى مقاطعة نخجوان التي يفصلها عن بقية الأراضي الأذرية إقليم كاراباخ. وخلال حرب ناغورني كاراباخ بين 1988 و1994 أصبح ذلك الممر تحت سيطرة الأرمن في «أرتساخ» كاراباخ، لكنه أصبح بعد الحرب الأخيرة بين الدولتين، الرابط الوحيد بين أرمينيا وكاراباخ.

وفي سبتمبر الماضي وقعت مناوشات بين الجيشين الأذري والأرميني حول الممر، أسفرت عن مقتل عشرات الجنود من الطرفين، وكانت أرمينيا، وهي عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، قد ناشدت دول المنظمة وعلى رأسها روسيا، تقديم دعم عسكري لها، لكنها لم تحصل على شيء، ومن ثم أقدمت أذربيجان على إغلاق الممر الذي سيطرت عليه في ديسمبر الماضي، وهو المنفذ الوحيد، ما ترك مئة ألف أرميني محاصرين داخل إقليم كاراباخ.

وقد فشلت قوات حفظ السلام الروسية في إعادة فتح الممر. وتنفي أذربيجان إغلاقه، ومع عجز قوات حفظ السلام عن الحفاظ على الأمن هناك، يشكّك المسؤولون في يريفان علانية في التزام الكرملين بالحفاظ على الوضع الراهن، ما جعلهم يرون أن الولايات المتحدة قادرة على التقارب مع أرمينيا، وقد تتخذها فرصة لإيجاد موطئ قدم لها في تلك المنطقة التي تعد فضاء خلفياً لروسيا، وذلك بسبب علاقتها القوية مع تركيا من جهة وأذربيجان من جهة أخرى.

كما أنها لن تكون قادرة على لعب دور الضامن للأمن بين أذربيجان وأرمينيا. وقد دخلت إيران على خط الأزمة، وأعلنت أنها ستحافظ على الوضع القائم من دون تغيير؛ الأمر الذي يعني أنها ستدخل طرفاً لصالح أرمينيا في أي حرب قد تنشأ مع أذربيجان. ومنبع الخوف الإيراني هو من مساعي أذربيجان إلى إقامة دولة أذربيجان الكبرى، وفي حال نجحت أذربيجان بمساعدة تركيا في كسر شوكة الأرمن، واستعادة إقليم ناغورني كارباخ بالكامل، فإن المنطقة سترتجف، لأن من مهام السياسة الخارجية الرئيسية لتركيا، الانفتاح والتواصل مع دول آسيا الوسطى التركية، وإيجاد فضاء تركي واحد يمتد من حدود الصين حتى حدود أوروبا، بعد أن أظهرت حرب كاراباخ محدودية قدرة روسيا على احتواء أذربيجان بالوسائل السياسية.

وفي هذه الحال، فإن روسيا ستخسر وجودها في منطقة القوقاز، كما أن إيران ستكون على شفا مواجهة قيام دولة أذربيجان الكبرى. ومن هنا، فإن حرب القوقاز القادمة لن تكون كغيرها من الحروب السابقة؛ بل ستكون حرباً مفصلية لجهة قيام واقع جغرافي سياسي جديد في تلك المنطقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/eaja3k42

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"