فكّوا المشانق عن عنق مونتسكيو

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

يروي الرئيس نبيه بري قصة سمعتها منه معبّرة عن جوهر أزمات الحكم في لبنان قبل دستور الطائف وبعده، قال: عندما كنت وزيراً للدولة في حكومة رئيسها عمر كرامي عام 1991، وكان رئيس الجمهورية إلياس الهراوي مترئساً إحدى جلسات مجلس الوزراء، تم تعيين فؤاد الترك أميناً عاماً لوزارة الخارجية، مع أن التعيين لم يكن بنداً مدرجاً على جدول الأعمال.

عند انتهاء الجلسة، ضاع الوزراء في قاعة مجلس الوزراء في بعبدا بين حقيقة التعيين وعدمه.

استوضحت الوزير محسن دلول، فأجاب: نعم، تم تعيين فؤاد الترك. سألنا إيلي حبيقة، فقال: كلا لم يعيّن! سألنا عبدالله الأمين، فقال: نعم عينوه.. هكذا ضاعت «الطاسة» بين إجابات الوزراء المتناقضة. تشاورنا مجموعة وزراء على عجل وغضب، وذهبنا مباشرة إلى الرئيس عمر كرامي الذي كان قد غادر على عجل إلى منزله في شارع فردان.

قرعنا بابه. كان يصلي. فوجئ سائلاً: خير إن شاء الله. قلت: هل عيّنت فؤاد الترك أميناً عاماً للخارجية؟ فأجاب بالنفي مندهشاً.

كان لا بد من سؤال هشام الشعار الأمين العام لمجلس الوزراء الذي أكد التعيين. اتصل كرامي بالرئيس الهراوي مستفسراً، فأكد له الأمر، دفع كرامي كرسياً أمامه، وأجاب الهراوي بنبرة حازمة: «اعتبر الحكومة مستقيلة».

كيف حصل الأمر؟ تابع بري: عندما هَمْهَمَ الرئيس الهراوي، نصف قاعد، بكلام غير مفهوم للأمين العام للمجلس مع انفضاض الجلسة، بتدوين تعيين الترك في المحضر بعدما مغادرة رئيس الحكومة القاعة، حيث راح الوزراء يتحادثون ويتسامرون وقوفاً، منهمكين في ترتيب حقائبهم وياقاتهم، أو يهاتفون أو يحادثون الصحفيين أمام باب القصر سائلين عن أمور كثيرة فاتتهم عبر المقررات التي تلاها وزير الإعلام.

تختصر الرواية تشابك السلطات الثلاث المستمر والمزمن عبر الأحاديات والثنائيات والثلاثيات المعروفة ب«الأونيكا والدويكا والترويكا» ليجرجر التاريخ نفسه شللاً للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لا الإعلامية.

قد يتذكر اللبنانيون معارضات بري وإلحاحه طوال عمله الوزاري لوضع نظام داخلي لمجلس الوزراء، بينما كان البعض يعتبر أن المطالبة بالنظام الداخلي تخفي الافتئات على سلطات رئيس الحكومة؛ إذ راحت تتكرس مقولات ترى أن السلطة بعدما انتقالها من رئيس الجمهورية منفرداً إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، يمكن أن تكون حكماً بيد رئيس الحكومة، لكنه بقي موضع اعتراض ولو أنه حصل بالممارسة، وتم تبريره عبر التذكير بتفرّد رؤساء الجمهورية بسلطانهم الذي راكم مرارة الإحساس بالغبن والحرمان.

بقي الحال مثيراً للجدل ويتبع شخصية رئيس الحكومة إلى درجة صار معها بعض الوزراء «أوزراً» يستسهلون المعارضات والتحفظات المتعددة المواقع والأهداف، بما يشلّ عجلات العمل الحكومي في فهم صلاحيات السلطات الثلاث المقفلة غير المتساوية ولا المتحاورة والممهدة للفراغ والسقوط الشاملين، وكأنه لا رجال دولة في لبنان؛ بل رجال سياسة يحضنون جماعاتهم وبيئاتهم الحزبية والطائفية، وهنا لبّ المخاطر القادمة.

بكلمتين، إن فلسفة مونتسكيو المستوردة بفصل السلطات الثلاث وتوازنها وتعاونها، تشوهت حتى الآن في قيادة لبنان، وأراه فيلسوفاً شنقوه في ساحاتهم المبعثرة، مع أن النتيجة الإيجابية والمثمرة التي آلت إليها رواية الرئيس بري تمثلت في إلغاء الرئيس الهراوي الماروني، مرسوم تعيين فؤاد الترك الكاثوليكي وكلاهما من مدينة زحلة، مع أن الترك كان جريئاً ويردّد أن «لبنان واقع بين دولتين، واحدة لا تعترف بنا، وثانية لا نعترف بها»، إضافة إلى مبادئ راقية لم يؤخذ بها منها:

1 أنا موظف عند رب عمل واحد هو لبنان.

2 لم ينص الدستور اللبناني أبداً على مذهب رئيس الجمهورية المسيحي.

إذن «الوظائف لكل الطوائف».

3 إطلاق بيروت المركز الدولي للحوار بين الثقافات والأديان والإلحاح كي تتبنّاه الأمم المتحدة.

وللإنصاف في ذكرى اغتياله 2023، اتصل الرئيس رفيق الحريري بفؤاد الترك في عام 2003 من القصر الجمهوري، وعلى مسمع من الرئيس الهراوي، طالباً منه القبول بتعيينه مديراً عاماً في القصر الجمهوري، لكنه رفض مع أنه سبق له أن شغل الأمانة العامة لوزارة الخارجية والمغتربين في 1983 و1988، وكرس جهوداً جبارة لتليين الصلابة يومذاك بين حكومتي المراسيم الجوالة بين الدكتور سليم الحص، والجنرال ميشال عون، ليغادر بعدها سفيراً إلى فرنسا، ثم إلى سويسرا.

صحيح أن معضلة تداخل المصالح حُلَّت شكلياً بصدور مرسوم ينظم عمل مجلس الوزراء، بينما كان وما زال من المفترض إصدار هذا التنظيم بقانون عن مجلس النواب، وهذا خطأ تنظيمي يجر وراءه منذ 1992، التشابكات بين السلطات المتداخلة، ورفض الحوار، وانتفاء الحلول الجذرية، واختلاط سلطات الداخل والخارج، بانتظار فكّ المشانق عن عنق مونتسكيو.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/29fj7c75

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"