مخاوف التبعية الثقافية

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ندى أحمد جابر *

عنوان قديم لقضية حديثة ومستمرة.. ظهر هذا العنوان في بداية القرن الماضي عندما تحدث عنه الكاتب (مصطفى المنفلوطي) (1924-1876) فيما يشبه استقراء للمستقبل.. ما كان يَعنيه (المنفلوطي) قد يتوافق مع مخاوف التبعية العمياء لتيارات داخلية، وقد يمتد لما نراه اليوم من تغيرات أحدثها الاستعمار الغربي، الذي نجد أنه غادر شكلاً تاركاً وراءه تبعية ثقافية.

يبدو ذلك واضحاً في توجهات وسائل الإعلام الغربية إلى المنطقة. هنا نجد بريطانيا مثلاً تتوجه بإعلامها الناطق بالعربية إلى البلدان التي كانت تحت سيطرتها، الحال نفسه ينطبق على الإعلام الفرنسي الذي يهتم بمشاهديه في الأقطار التي كانت تحت سيطرته، وبهذا يضمن الغرب ولاء الأجيال الجديدة لثقافته والتأثر بها.

هذه المخاوف بالمناسبة ليست في مناطقنا فحسب، هناك عناوين وصرخات جاءت من القارة العجوز وهي تشعر بعجزها أكثر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسيطرة أمريكا اقتصادياً عليها، حيث واكبتها سيطرة ثقافية أثارت المخاوف من تمددها وابتلاعها للثقافة الأوروبية العريقة. وفي هذا السياق كتب المؤلف الأمريكي (ديفيد إلوود) (David Ellwood) في كتابه «الصدمة الأمريكية» واصفاً أوروبا في ظل ما يسمى (بالأمركة) موضحاً الآثار التي أحدثتها هذه الثقافة من تغييرات في الهوية الأوروبية. من ناحية أخرى تناول الكاتب (دايفيد لافاري) (David Lavary) المتخصص في دراسة الثقافة الشعبية ورئيس قسم السينما والتلفزيون في جامعة برونيل (Brunel) في لندن، تناول سرعة انتشار التلفزيون الأمريكي في أوروبا وما تركه من تغيير في كل نواحي الحياة الثقافية. ونذكر أيضاً الكاتب (ماثيو ج. سميث) (Matthew J. Smith) عندما تحدث عن هوليوود في أوروبا وكيف كان وقع التيار الجارف الذي أحدثته السينما الأمريكية على ثقافة الشعوب الأوروبية في النصف الأول من القرن الماضي. هذه الموجة الذي عبّـر عنها أيضاً الكاتب الفرنسي (جان بودليراد) (Jean Baudrillard) حينما تخوف من (أمركة الثقافة) في كتابه «أمريكا» الصادر عام (1989) وفيه يقول: «إن الأمركة في أوروبا أصبحت شكلاً من أشكال الهيمنة والإمبريالية الثقافية».. ويطالب بوقف هذه القوة الثقافية التي بدأت تمتد لتبتلع كل القيم والمبادئ التاريخية الأوروبية وتحل محلها.

وهنا لا بد أن نتوقف عند (إعلام الدراما) الذي يعتبر من أهم وأخطر وسائل الإعلام من حيث حقيقة وصوله بسهولة إلى كل فئات المجتمع، فيُبقي المشاهد مشدوداً إلى الشاشة خاصةً مع تقنيات التأثيرات الحديثة فيُؤخذ بالإبهار بها وبالمحتوى المُتقن (كالمُنوم مغناطيسياً) وهكذا ينجذب إليها ويسهل التأثير عليه من خلال الإيحاء للعقل الباطني بهدف ترسيخ فكرة معينة تمتد من الفرد إلى الجماعة للتأثير مباشرة في ضمير الرأي العام. بهذه الطريقة سيطرت القيم والأفكار الأمريكية بسهولة على الشعوب من خلال الأفلام التي تُرصد لها مبالغ ضخمة، حيث اقترن اسم (هوليوود) بالسينما العالمية وليس الأمريكية فحسب. ولا ننسى المسلسلات الأمريكية التي غزت العالم مثل مسلسل (Bay Watch) الذي تمت مشاهدته في 144 دولة وحقق أكثر من بليون مشاهدة، ومسلسل (The Simpsons) الذي عرض في 70 دولة، وغيرها الكثير من الدراما التلفزيونية والسينمائية وهي تعد أسرع وسائل نشر للثقافات؛ حيث إنها تصل لكل فئات المجتمع ولا تقتصر على النُخب. وهكذا بدأ تأثر الأجيال الجديدة بالقيم والأخلاقيات الأمريكية يُشكل هاجس الخوف في معظم البلدان.

أما في منطقتنا وتحت هذا الفضاء المفتوح الخالي من النوافذ والأبواب، ومع هذه المخاوف التي جاءت من الغرب، وجدنا أنفسنا أمامنا مخاوف أخرى جاءت من الداخل من تيار التطرف الذي استغل الفرصة ليأخذنا إلى فخٍ أكثر خطورة مما نَحذر منه.

نحنا أمام تحدٍ كبير، من المؤكد أننا نرفض كل الحركات المتطرفة، ونؤمن أن الانِغلاق ليس حلاً؛ بل مشكلة أكبر. فالانفتاح على الثقافات الأخرى يثري الإبداع لدى الفرد، والتمسك بهويتنا والفخر بها لا يتنافى مع الانفتاح على الثقافات الغربية والاستفادة منها. علينا أن نتذكر أن الحضارة العربية التاريخية التي نفخر بها بدأت مع العصر الذهبي لحركة الترجمة في أواخر الخلافة الأموية وازدهرت في عصر الخلافة العباسية لتثبت لنا ولتُعلمنا أن لا خوف من الانفتاح الخوف من التبعية والتقليد، وما كان يعنيه (المنفلوطي) وهو الفيلسوف العربي المتدين والمنفتح، هو ذلك الوعي بين التبعية والاستقلال الثقافي.. الوعي القائم على التمسك بالهوية الوطنية العربية المنفتحة على الجديد لتتزود منه.. لا لتذوب فيه.

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5xfexu3f

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"