هيكل وديغول.. ولغة الخرائط

00:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

لم يكن الرئيس الفرنسي شارل ديغول بخلفيته العسكرية مستعداً لأن يستمع لمداخلات دبلوماسية معتادة ومطولة تمهد للحوار وأهدافه.

وكان ضيفه القادم من القاهرة، مقدراً دوره التاريخي في الحرب العالمية الثانية كأحد أبطالها الكبار، قد هيأ نفسه في طريقه ل«قصر الإليزيه» لسيناريو يسجل فيه- أولاً- ما رأى أن الرجل يستحقه بأدواره الاستثنائية في تحرير بلاده من تحية ينقلها إليه باسم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.. ثم ينتقل- ثانياً- إلى العلاقات التاريخية والتقليدية بين فرنسا ومصر ويؤكد على استمرارها.. قبل أن يصل- ثالثاً- إلى رسالته وموضوعها.

«عال يا مسيو هيكل.. قل لي ماذا تريد بالضبط؟!». «سقطت كل التمهيدات التي هيأت نفسي لها ذات صباح من سبتمبر/أيلول عام 1967».

«التفت إلى أن الرجل التاريخي يجلس خلف مكتبه على فوتيل كبير لكنه ثابت، لا يتحرك يميناً أو يساراً على ما اعتاد زعماء آخرون، وأن المباشرة من مقومات شخصيته ». «دخلت إلى موضوعي وفيه رهان على دور لديغول بعد نكسة يونيو/حزيران يخفف من وطأة الانحيازات الغربية».

«كان تقدير عبدالناصر أننا نحتاج إلى طرف آخر عبر المتوسط في أوروبا يتصرف على نحو مستقل ومختلف عن واشنطن». لم تسعفه تغطيته لمؤتمرين صحفيين أوائل عام 1944 في ذروة الحرب العالمية الثانية تكلم فيهما ديغول عن المقاومة الفرنسية ومواقفها في التعرف إلى شخصيته. في ذلك الوقت كان الزعيم الفرنسي يعمل من مكتب في حي «غاردن سيتي» ويقيم بشقة تطل على نادي الجزيرة في حي «الزمالك».

بجملة قاطعة ذات صباح في قصر الإليزيه انفتحت أمامه مغاليق شخصية أحد عمالقة القرن العشرين، لكن أكثر ما استلفت انتباهه في ذلك اللقاء عناية ديغول بالخرائط، «وهذه من طبائع العمل العسكري».

بعد ذلك فإنه «كرجل دولة يصعب عليه إدارة ملفات الأمن القومي لبلاده ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، ما لم يمتد نظره إلى ما حوله في محيطه وعالمه على خرائط».

طلب ديغول خريطة وضعها أمام ضيفه: «انظر أمامك يا مسيو هيكل.. هذه مساحة العالم العربي.. وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التي لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقها، الوضع لا ينبغي أن يخيف، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة في مسار المستقبل».

بلغة الخرائط أجاب ديغول على رسالة عبدالناصر: «اطمئن».. وكان ذلك أكثر مما توقعت القاهرة من باريس في أحوال ما بعد (5) يونيو.

«ما الذي جرى للمكان وعبقريته وكيف وصلنا إلى هنا؟» كان ذلك سؤالاً قلقاً طرحه هيكل فيما بعد على راهب الجغرافيا الدكتور

جمال حمدان. أجابه: «حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحياناً إلى أسفل.. شهدنا انقلاباً لأنه كان بين السكان من لم يقدر ولم يرعَ حرمة وحق المكان». في ذلك الصباح الباريسي ترسخ لديه أن «الصحفي بدوره لا يقدر على قراءة المشاهد المتحركة بتفاعلاتها وتعقيداتها، ما لم تكن الخريطة ماثلة أمامه».

في حواراته المطولة مع صديق ديغول ووزير ثقافته أندريه مالرو، صاحب رواية «الأمل»، تبدّت نقطة تنوير جديدة لدوره هو في تجربة أخرى على الجانب الآخر من المتوسط. كلاهما ارتبط برجل تاريخي، أحدهما اقترب برؤية المثقف والآخر بموهبة الصحفي.

ذات صباح آخر على مائدة إفطار في بيته دار حوار مثير في موضوعه وتفاصيله مع الدكتور إدوارد سعيد صاحب «الاستشراق» حول المثقف والسلطة. كان رأي سعيد، وقد نشرته ضمن حوار معه منتصف تسعينات القرن الماضي: «المثقف يكفّ أن يكون مثقفاً عندما يقترب من السلطة».

سألته: «حتى أندريه مالرو؟!». أجاب سعيد: «نعم».

وكان رأي هيكل: «أن التعريف على استقامته فيه تعسف، فماذا يفعل مالرو وصديقه الجنرال الذي أعلن المقاومة بعد هزيمة بلاده واحتلال عاصمتها أصبح رئيساً لفرنسا؟.. هل تقترح أن يقطع علاقته به وأن يعترض على تولي وزارة الثقافة الفرنسية حتى يكون بالتعريف مثقفاً؟».

في نهاية المساجلة بين صديقين، أبدى سعيد تفهمه أن هناك حالات في التاريخ تستعصي على التعريف الذي اعتمده تدخل فيها علاقة محمد حسنين هيكل بجمال عبدالناصر.

«الطريق إلى فهم السياسة يبدأ بالنظر إلى الخريطة».

إيماءة ديغول للخرائط وقراءتها أكدت ما كان مقتنعاً به من تجاربه في تغطية الحروب، ف«أنت لا تستطيع كمراسل عسكري أن تستوعب مسارات الحرب ما لم تكن الخريطة أمامك».

«الخريطة لا تتحرك.. الأطراف هي التي تتغير». و«الجغرافيا مجرد وعاء يصبّ فيه التاريخ». «كل خطوات التاريخ تقودك إلى الجغرافيا».

«في كل الحروب فإنها مرجعيتك الكبرى لفهم ما يجري حولك، لا يمكنك أن تقرأ حرب السويس على نحو متكامل دون أن تطل على خرائط قبرص ومالطة كساحتين خلفيتين للحرب».

«لا يمكن أن تفهم ما هو جوهري بلا خريطة ترشدك وتهديك إلى حقائق ثابتة وتفسح المجال أمامك للانتقال مما هو تكتيكي إلى ما هو استراتيجي». كانت الحرب ومواقعها مدخله إلى الجغرافيا وخرائطها.

وبدت إيماءة «ديغول» إلهاماً جديداً لعناية أكبر بالخرائط أخذت بالوقت تتسع حتى احتلت نسخٌ نادرة لثلاث خرائط مصرية قديمة حائطاً خلف مكتبه وأزاحت لوحات تشكيلية لفنانين كبار عالميين ومصريين.

قرب مئويته تحتاج تجربة «هيكل» العريضة في الصحافة والسياسة إلى قراءات معمقة جديدة، لعلها تساعد في فهم ظاهرته، وتأثيره الممتد رغم غيابه منذ سبع سنوات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4kkhh3pw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"