هواء للبيع بين الدول العظمى

00:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تمتلكني قناعة مفتوحة للمجادلة بأن العقل القيادي العربي يتعامل مع الشخصيات الأجنبية وممثلي الدول من دون دراسة نقدية دقيقة وواقعية. لربما كانت تتقدم المفاهيم الدينية والأخلاقية على الوقائع والمصالح. أجازف بأننا لم نكن نعرف عن روسيا مثلاً سوى القليل فنجانب صورتها بكونها معروفة رسمها الغرب وصقلها ونقلها إلينا ومشينا بها ولو جاءت الحصيلة بعيداً من التوصيف المدموغ بالتجارب والتوقعات المتغيرة والمُحيّرة.

لماذا هذه الاستهلالية؟

1- لأن الرئيس الأمريكي جو بايدن تهادى مفاجئاً العالم نحو كييف زائراً زيلينسكي في 20 الجاري فتولد المفاجئة الثانية، الثلاثاء 21 في اليوم التالي عبر الخطاب «الجاهز» والمعدل لفلاديمير بوتين أمام الجمعية الفيدرالية الذي شد بمضمونه العالم؛ إذ تقاطرت النقاط الساخنة على الحروف في مقاربته تحديات العظمة الدولية في الجغرافيا كما في الاستراتيجيات موجهاً رسائل مشفّرة قد لا تقبل التأويل. ورحت عربياً أنقّب في هذا الكمّ الهائل من المكتوب والمُقال في الحدثين يليق بالتعبير، فاخترت ما قاله النائب الجمهوري مات غيتز من أن بايدن شاء «التخلي عن أمريكا من أجل أوكرانيا»، معتبراً أن هذا هو «النهج الذي تخلى فيه بايدن عن مصالح أمريكا منذ بداية رئاسته، ولهذا يُمكن لأوكرانيا أن تحتفظ به».

2- لأن الشخصية الروسية كانت لربما غامضة وصعبة من قبل، يصعب التكهن بردود فعلها تجاه موقف أو فكرة تجاهها. لماذا؟ لأنها من الممكن والشائع أن تتعامل معك ببرودة وحذر شديدين، وخصوصاً عندما تتوقع بأن التقارب منها ناجم عن مواقف غامضة ومتشابكة مع دول أخرى فتصبح ساخنة وملتبسة. هكذا أصبح من الممكن والمألوف تعاطيها بسخونة وحدة وحذر مع بوتين غير متوقع على الإطلاق ولا يستدعي الالتهاب كله. هذه الخصوصية التي لا تحتمل التكهنات والتوقعات الكثيرة، كانت السبب الجوهري الذي يجعلنا نفهم هزيمة الألمان التاريخية في الحرب العالمية الثانية. لماذا أيضاً؟ لأن الروس كانوا يضربون؛ حيث لا يتوقع المكان أي عقل عسكري مجتهد في العالم على الإطلاق.

3- لم يحصل التدخل الروسي الأخير في سوريا إلا بوقته المثال الذي فاجأ العالم بعد سنوات خمس من الحروب التي هزّت جذور العروبة. هناك أمر آخر فات الكثيرين وهو ذلك الافتقار السياسي المهم بضرورة التمييز بين الرؤساء السوفييت وتجنّب التعامل معهم جميعاً شخصيةً مفبركة ومستنسخة نموذجية واحدة، لأن يلتسين وغورباتشوف مثلاً كانا مقربين جداً من الغرب وكلاهما تبوأ السلطة بدعم غربي ليس معروفة تفاصيله للجميع، بينما جاء وصول فلاديمير بوتين على رأس روسيا علامة فارقة أو نتيجة انتصار ال«كي جي بي» في معركة انتزاع روسيا من يد الغرب ويدور البحث مجدداً عن لملمة الماضي المشتت والضائع بحلة معاصرة مفتوحة على العالم.

4- راحت روسيا بوتين، إذن، تصارع في معارك العودة إلى الساحة الدولية بعدما لاحت سوريا لها موقعاً متقدماً؛ بل مغرياً في استعادة عظمتها نحو المتوسط وقد ساعدت أمريكا وحلفاؤها على تعزيز تلك الاستعادة عبر الحروب المفتوحة وتفشي الإرهاب هناك في2011، مع أن بوتين كان يوظّف الفرص الاستراتيجية التي كُتب عنها الكثير للخروج البطيء من الأعباء والاحتلالات الأمريكية الباهظة. ضاعت الفرص بالطبع، لأن بعض القادة العرب رأوا أن المهمة معقدة وصعبة وبقيت المساعدات الأمريكية الباب الأوحد الذي حقق الأمن والاستقرار مع أن تلازم ربيع العرب القاسي ونهضة عصر العولمة أسهما في الزمن المناسب الصعب بالوعي وفتح نوافذ العلاقات الدولية على مصراعيها، خصوصاً بعدما اتّضح أن بوتين ينجح بإعادة بناء أعمدة العظمة لبلاده، وهو المعروف بأنه لا يفتح ملفاً ولا يتركه معلقاً؛ بل يجهد على تصفيته حتى النهاية.

5- لبوتين أخيراً صور خمس: الأولى مبهمة بالصمت وكبت النوايا لزعيم استخباراتي تهافت الفنانون الروس لرسمه وصعب عليهم التقاط ملامحه الزئبقية «الموناليزية» المترددة بين الحزن والتردد والتوثب والفرح والثبات والتحسب عبر ابتسامتها الرقيقة. ثمة صورة ثانية، بناها بوتين من خلال تراجعه نحو رئاسة الوزراء وقعوده المدروس خلف ظهر الرئيس ميدفيديف مما تشكّل صورة بوتين الثاني بملامح شاءت الظروف أن تُبرز بعضها بوضوح. قد يكون أصدق تعبير أنقله عن هذه الصورة ما قاله المقدم التلفزيوني أليكسي بوشكوف حاصراً عدم جدوى تعاون موسكو مع واشنطن:

«ما زالت أمريكا تبيعنا الهواء، وهي تعتقد بأن علينا شراء هذا الهواء، وأن ندفع ثمنه دعماً حقيقياً غير مشروط لأمريكا، لقد استعملت أمريكا العراق ساحة اختبار لقوتها على فرض الحلول العنيفة، وقلب الأنظمة التي لا تناسبها، وهذا ما دفعها نحو سوريا والبلدان الأخرى في المنطقة من دون أي اعتبار لنا أو للأمم المتحدة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5akpyhpn

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"