عادي
قرأت لك

إبراهيم محمد إبراهيم الشعر وحده سكّر الحياة

14:32 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

«سُكَّرُ الوقت».. قصيدة تفعيلة طويلة للشاعر إبراهيم محمد إبراهيم «إصدارات: وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات: الطبعة الأولى 2012»، وجاءت القصيدة في 87 صفحة من القطع المتوسط، كما جاءت على تفعيلة «فاعِلنْ» أو صورة عنها «فعلن»، وقبل، الإشارة إلى مناخ القصيدة العام أشير إلى نقطتين، أولاً، «القصيدة الواحدة الطويلة» وتسمى أحياناً «القصيدة الملحمية»، مع تحفّظي تماماً على فكرة أن كل قصيدة طويلة هي قصيدة ملحمية، في حين أن تعريف الملحمة في الموسوعة العربية يقول إنها عمل أدبي سردي طويل، منظوم شعراً، عُرف منذ القدم لدى معظم شعوب العالم، وفي التعريف أيضاً أن الملحمة تسرد مآثر بطولية مهمة في حياة شعب بعينه، مثل، حرب حاسمة وأبطالها وأماكنها، غير «سكّر الوقت» لا تسرد حرباً ولا تسجل مآثر بطولة.

«الملحمة» مصطلح أدبي نقدي، ولعلّ أوضح من اشتغل عليه «بول ميرجنت» في إطار موسوعة المصطلح النقدي، ونقله إلى العربية بحرفية ثقافية الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، وإذا كان إبراهيم محمد إبراهيم لم «يملحم» حرباً ولم «يملحم» مأثرة بطولية، فأرى أن كتابة قصيدة طويلة على وزن عروضي واحد هو شكل ولو مُبَسط من أشكال «الملحمة»، فالوزن يظل عصب القصيدة، فلا يهبط ليتحوّل إلى إيقاع خَرِبْ، ولا يعلو فيتحوّل إلى صخب.

النقطة الثانية التي أشير إليها هي وزن «فاعلن» في حدّ ذاته هذا الذي جاءت عليه أو جرت عليه قصيدة «سكّر الوقت» فهو وزن سائد بكثرة في قصيدة التفعيلة، والكثير من شعر محمود درويش، وشوقي بزيع وأمل دنقل ومحمد القيسي وحبيب الصايغ، وحسب الشيخ جعفر، وغيرهم العشرات من الشعراء والشاعرات.. جرى مجرى تفعيلة «فاعلن» أو صورتها «فعلن»، وتتميز هذه التفعيلة بالسلاسة والخفّة والسرعة؛ لذلك، تتوالد صور شعرية كثيرة في القصيدة، بسبب سرعة وليونة هذا الوزن أو هذه التفعيلة، لا بل لأنها تفعيلة قصيرة، سريعة، مرنة فإنها ساعدت على ظهور السرد في الشعر، وجعلت المسافة قصيرة أو قريبة بين النثر والشعر، ثم، إذا أردنا العودة إلى مفهوم «الملحمة»، فإن القصائد الطويلة ترهقها التفعيلات «الثقيلة» برأيي، مثل - تفعيلة «متفاعلن» أو «فاعلاتن».. الأولى من الكامل، والثانية من الرمل.

تبدأ القصيدة بإشارة واضحة تفيد أن الشاعر كتب قصيدته «سكر الوقت» في مكان آخر غير بلاده؛ حيث ومنذ بداية القصيدة، يتذكر شاي بلاده الذي حتى مرارته حلوة، لا بل تحلو الحياة في بلاد الشاعر حتى بلا سكّر.

  • عتبة

هذه عتبة رائعة في القصيدة. عتبة أولى تمهيدية لنصّ مصنوع من السُكّر. نص حلو مثل بلاد الشاعر. حلو مثل هذه القصيدة التي تشيع جوّاً من الحلاوة، والرقة، ليس في القراءة فقط؛ بل، تأمّل الأمكنة، والحياة، والناس، و«السكّر».

«سكّر الوقت» هو موضوع خطاب الشاعر، ولكن سكّر الوقت هذا يحتاج إلى سُكّرة إضافية أخرى ليصبح أطيب. هنا حيث مكان هذا السكّر ومكان الوقت ومكان كتابة القصيدة يلاحظ الشاعر أن الناس «أبسط ممّا نظن/ لذا/ سأحاول أن أتعلّم درس البساطة منهم/ مساءُ البساطة قلت لسيدةٍ كلبها مثلها/ لا يسيءُ إلى أَحَدٍ».

بعد قراءة هذا المقطع الذي يلتقي فيه الشاعر بسيدة معها كلبها، نعرف من النص، أنه في مكان أجنبي على الأرجح، والوقت وقت صيف «قل أنه وقت سكّر»، والصيف في بلاد الشاعر أجمل، وسوف يحن إلى سكّر النخلِ، «.. أرنو بقلبي، وترنو إليَّ النخيلُ بلا سكّرٍ.. طعمُ هذا المكان جَديدٌ عليَّ/ وطعمي جَديد عليه».

بعد قليل، ومع متواليات النصّ، ودرجاته وتدرّجاته ونقلاته الهادئة المركّزة نعرف أن الشاعر كان في «فيينا»، «يا فيينّا رآكِ الكثيرون غيري/ رأيت الكثيرين فيكِ، يهيمون مثل البَعوض بهذي الحديقة/».

ثم مرة ثانية.. «سكر الوقت يحتاج سكّرةً» هذه العبارة أو هذه الجملة أو هذه الصورة تتكرر في القصيدة، فهي أوجه القصيدة، وصوتها ودرجاتها و«حلاوتها»، لا بل تأتي عبارة «سكّر الوقت يحتاج سُكّرةً» وكأنها مجموعة فواصل بين نقلات القصيدة أو درجاتها.. فمن مطلع القصيدة، ثم إلى فيينا، والآن، إلى «الألب».

«أيّها الألبُ، يا أيها القلب، ها إنني أتأبّط رمل الجزيرة، والهَيْل، والقهوة العربية والحُبّ..» ثم يقول: «أيها الأَلبُ عدني بسكّرةٍ لا تغيب حلاوتها حين أبكي على الميّتين من القهر والجوع والحب» وبالطبع، لا يخفى على القارئ اللبيب - كل لعب الشاعر على مفردتي «الألب» و«القلب»، فالقاف في القلب تُقلب إلى الهمزة أو الألف المهموزة في «الألب»، فكأن «الألب» هو ليس الجبال أو المكان؛ بل، «القلب»، وهو لعب إيقاعي شكلاني ولكنه يشير إلى براعة الشاعر، وتمكنه من اللغة، والإيقاع، والوزن.

تراوح القصيدة بين الصور التي يراها الشاعر أو لنقل تلك التي يراها الضمير المتكلم في القصيدة من خلال المكان «الأجنبي» الذي هو فيه، وبين صور مكانه الأصلي.

بين صور النصّ المتوالية، وبين ما يرى الضمير المتكلم في القصيدة يرى الشاعر نفسه في منطقة أخرى، إنه «الآن بذرةُ هذا الوجود ومرآتُه».

هذه «المرآة» التي تعكس هذه المرّة غنائية الشاعر العذب، وروحانيته التي لا تكف عن حمايته والإبقاء عليه نظيفاً أبيض بلا صفار الكراهية، والحقد، والدسيسة.. تلك المنفّرات للشاعر الذي يجد سُكَّره» هذه المرة في ما هو روحي، وإنساني، وخشوعي: «سكّر الوقت يحلو، ونبض الشوارع يعلو على هفوات الرصيف. الكنائس تفرع أجراسها، والسحابُ بكل خشوعٍ تواضع لله، صَلّى على سفح ذاك الجبل. الصنوبر والسرو حجّاج هذا الجمال وفتنته، أذرع من خلال الغيوم إلى ربّها تبتهل، ها هو الغيم يدنو من الأرض يسجدُ، يغمر كل البيوت..». إلى أن يقول.. «فسبحان ربك، رب الغيوم، ورب الجمال، ورب الصنوبر. هل بعد هذا التألق في مسرح الخلقِ كفرٌ.. أجل.. ثم أفئدة كالحجارة لا تشرب الماء. ناريةٌ. تكفهرُّ إذا طرق الحسن أبوابها. ربِّ هب لي من الغيم قلباً..».

هذا هو إذاً «السُّكَر» الروحي، أو «السكر القلباني»، سكر الحب والجمال.

الشعر يُصَفّي، وينقّي، وينظف. والإنسان ماء. خلق من ماء. وأكثر من ثلثي جسده ماء. إنه سكر وملح وعرق ودموع. مجموعة وسخ تحتاج إلى ماكينة تنقية كي لا يبقى في الإنسان إلا ما هو حلو وسكّري. بالشعر وحده، بِ «سكر الوقت» ينظف، وينشف، ويعرف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdhxh93m

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"