صناعة الفتن

00:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

كنّا أمة واحدة، وأصبحنا أمماً وشعوباً وجماعات. كنا كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، واليوم أصبحنا جسداً واحداً تتصارع أعضاؤه ويسعى كل منهم للنيل من الآخر، والهدف هو أن يضرب الوهن والضعف هذا الجسد حتى يسهل إسقاطه وقتما يريد مستهدفوه وأعداؤه.

في الماضي، حاولوا إخضاعنا لإرادتهم بالحروب والقوة العسكرية، ولكنهم وجدونا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، ولم ينجحوا في هزيمتنا إلا عندما كان بيننا خونة، تجسسوا علينا لصالحهم، واليوم لم تعد هناك ضرورة للقوة العسكرية بعد أن نجحوا في العبث بجبهاتنا الداخلية، ليحولوا الشعب الواحد إلى شعوب تتصارع وتتقاتل وينهش بعضها بعضاً، يحركون بعض فئاتنا من وراء أجهزة المحمول والكمبيوتر بكبسة زر لإشعال نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، بعد أن كونوا من أبنائه جيوشاً إلكترونية تحل محل الجيوش النظامية، مهمتها هدم جدار الثقة بين الشعوب وحكوماتها، ونشر الشك بين مختلف الفئات الشعبية، وزرع التطرف في عقول العاجزين عن تحقيق ذواتهم والغافلين عن إدراك ما يحدث حولهم، ليصبحوا صيداً سهلاً، يتم تأهيله لتفجير الاستقرار في محيطه بعد غسل دماغه وزرع الأفكار الهادمة للمجتمعات والمفتتة للشعوب فيه.

مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن أبداً مواقع تواصل، ولكنها في جوهرها مواقع تنافر ونشر البغضاء بين أبناء الشعب الواحد، فبعد أن كان في كل دولة كتّابها الذين يحاولون قيادة الرأي العام إلى طريق واحد، أصبح في كل دولة كتّاب بعدد سكانها الناضجين وغير الناضجين، لكل واحد صفحته التي يدلي فيها بما يشاء من آراء محاولاً استقطاب ما يستطيع من متابعيه، قليلهم بأسماء وهويات صريحة واضحة لا يستحون مما يقولون ولا يخشون عواقب ما يكتبون.

وكثير منهم بأسماء وهمية وهويات مزيفة يختبئون وراءها، يقولون ما يثير الفتن ويغضب الآخر ويهدم الدول ويفسد العلاقات بين الأشقاء ويثير الغضب بين الأصدقاء، لديهم أجندات يعملون لحسابها، وهم يعون أن ما يروجون له قد يثير من العواصف ما يقتلع الجميع ويحرك من الزلازل ما يهدم القيم فوق الجميع، ولكن كل ذلك ليس مهمّاً طالما أنهم يتقاضون بضعة دولارات من هذه الجهة أو تلك، بعد أن قبلوا على أنفسهم أن يكونوا مرتزقة يؤذون أهلهم وذويهم وتستخدمهم أياد خفية في تحقيق ما عجزت عنه جيوش نظامية.

نشر الكراهية بين أبناء الشعب الواحد وبين أبناء الأمة الواحدة هو الهدف، فالكراهية هي كلمة السر والأداة المثالية لهدم الأسر، وهي القنبلة التي تفجر المجتمعات. وإذا كان وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا سايكس وبيكو قد قاما بتقسيم المنطقة العربية جغرافياً واقتسامها عام 1916، فإن هذا التقسيم تحدته إرادة الشعوب سنوات وعقوداً، وبدلاً من أن تتفتت الأمة توحدت في مواجهة الأزمات، حتى جاءت مواقع التنافر الاجتماعي لتفعل بهذه الأمة ودولها ما عجزت أن تفعله بها معاهدة سايكس- بيكو السرية، قسّمت الشعوب طائفياً ومذهبياً ومناطقياً وعرقياً، والشعب الذي عجزوا عن تقسيمه، اختلقوا له معايير جديدة، فزرعوا التطرف بين أبنائه.

من يطالع مواقع التنافر الاجتماعي، سيجدها ملأى بكل ما يصنع الفتن، بعضها فتن داخل حدود الدولة الواحدة بهدف إشعال الاقتتال بين أبنائها ومنها، فتن رياضية واجتماعية واقتصادية ومذهبية ومناطقية، وبين موالاة ومعارضة، وحتى بين أصحاب المهنة الواحدة، وبعضها الآخر فتن تتخطى الحدود وهدفها خلخلة استقرار المنطقة، وهو ما نتابع بعض فصوله حالياً بين شعوب عربية.

قادة ومسؤولون ورموز فكرية وسياسية دخلت على الخط في محاولة وقف هذه المهزلة ونفي وجود أي خلافات واعتراف بفضل ذوي الفضل، وتأكيد على احترام دروس التاريخ والجغرافيا، ولكن من يعبثون يواصلون محاولاتهم لإشعال نار الفتنة، وهي نار لم ولن تشتعل، إنما في المقابل لن يتوقف المتربصون إلى أن ينصرف الناس عن صفحاتهم ويدعونهم يغردون وحدهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/38wekvzv

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"