جدلية الأنا / الآخر

01:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لا يمكن التّفكير في الأنا إلاّ من طريق التّفكير في الآخَر، والعكس صحيح. ومعنى ذلك أنّ الحدَّيْن لا يَوجدان إلاّ متّصليْن لا انفصالَ بينهما، حتّى وإنْ أقْصَى الواحدُ منهما الثّاني ونبذه؛ أي حتّى وإنْ استوتْ علاقتُهما على أساس ثنائيّة تقاطبيّة تنابذيّة. ليس في الأمر هذا ما يبعث على الغرابة، على الأقلّ في وعيٍ لا يرى إلى التّناقض بوصفه محْواً وإلغاءً كليّيْن؛ بل من حيث هو نفيٌ إيجابيّ (تتولّد منه عناصر جديدة)، ومن حيث هو معيارٌ للتّفرقة بين الموضوعات والأجسام في الطّبيعة والاجتماع الإنسانيّ؛ إذْ «بِضِدِّها تتبيّن الأشياء» على قول المتنبيّ.

من النّافل القول، إذن، إنّ علاقات الأنا/الآخر تطرح نفسها على الفكر في صورة علاقات جدليّة. لكنّ هذه الجدليّة معقَّدة أو مُركَّبة وليست بسيطة كما يُظنّ. ومعنى كونها جدليّة، ابتداءً، أنّ أيّاً من حدّيْها لا يتحدّد بذاته، أي لا يكتسب ماهيةً ذاتية تأتيه من ذاته بالتِّلقاء، وبمعزلٍ عن غيره أو عن خارجه؛ بل إنّ الواحد منهما يتحدّد في سياق علاقته بغيره، على نحوٍ يكون فيه كلٌّ منهما أناً وآخر في الوقت عينه، أو قُل - للدّقّة - أناً بالنّسبة إلى نفسه، وآخر بالنّسبة إلى غيره. إنّ معنى كلٍّ منهما متولِّدٌ، بالضّرورة، من تلك العلاقة الأفقيّة التي تنتسج بينهما؛ وذلك يحْدُث على نحوٍ يمتنع معه - بل يستحيل - إنتاج أيّ تعريفٍ (تحديدٍ) ما هويّ لهما من ذاتيْهما، أي من خارج نطاق تلك العلاقة الجدليّة التي يتولّد فيها معناهما.

تأسيساً على ذلك، نميل - من جهتنا - إلى الاعتقاد بأنّ المُدخل الأَسْلَم إلى مقاربة جدليّة الأنا/ الآخَر وتفكيكها يكون من طريق تَوسُّل منطق العلاقات لا منطق الماهيات؛ ذلك أنّ التّحديد (تعريف الحدود)، في هذه الثّنائيّة، تحديد متبادل وليس تَحَدُّداً أحادياً وذاتياً بالمعنى الذي يفيده مفهوم الهويّة الأرسطيّ بما هو مبدأ من مبادئ العقل والمنطق عنده. لذلك ربّما يكون قد صحَّ، هنا، ذلك الأفق الفلسفيّ الهيغليّ المفتوح لوعي هذه العلاقة، والذي يسمح بالنّظر إلى هذه الثّنائيّة من زاوية حاجة الأنا - أيّ أنا على وجه التّحديد - إلى آخَر كي تُحدِّد «نفسَها» بوصفها أناً متميّزة ومتمايزة، أي لكي تمُرّ من لحظة الوعي الذّاتيّ، وكأنّ هذا الوعي لا ينبثق من الذّات، بل من آخَر يحْمل على انبثاقه.

ثمّ إنّها جدليّة مركَّبة، تالياً، لأنّها مؤلَّفة من حدّين ليسا بسيطيْن وإنّما يتولّد تكوينُهما من صلةٍ تفاعليّة يكتسب كلٌّ منهما فيها شخصيّته التي يخالطها شيء - أو أشياء - ممّا في شخصيّة الآخر و بالتّالي، يكون فيها كلُّ حدٍّ من حدّيْها هو ولا هو، أو هو وغيره في الآن عينِه فيفقد، بذلك، بساطتَه (أي تكوينه من عنصرٍ واحدٍ وحيد لا مُخالِط له) ليتركّب من أكثر من عنصرٍ واحد. غير أنّ الأهمّ - في سياقنا الذي نحن فيه - من كونهما ليسا حدّين بسيطيْن أنّهما يفتقران إلى معنًى حاصل في الوعي بمقتضى البداهة. أمّا لماذا لا يمكن أن يُبْتَدَها، أو يُدْرَكَا بداهةً، فلأنّ معانيهما ليست ثابتة أو قارّة بل متبدّلة أو متحوّلة؛ وهي، في سيولة تحوّلاتها المتعاقبة، تخضع للأحوال التي تكون عليها العلاقةُ بين الحدّين في مَجْرى تطوّرها: التّواصل، الصّدام، التّبادل، القطيعة، التّعايش، الصّراع،...إلخ. لذلك لا يكتسب أيٌّ من المفهومين معنًى واحداً «بديهيّاً» أو متواضَعاً عليه في أذهان حاملي المفهوم، والمشتغلين به داخل هذه الثّقافة أو تلك، بل هو يكتسب معانيه من شروط التّفاعل بين حدّيْ العلاقة.

من الواضح، تبعاً لمعطيات التّحليل السّابقة، أنّنا أمام ثنائيّة مفهوميّة شديدة التّعقيد وتحتاج، بالتّالي، إلى وعيٍ تركيبيّ لها أو إلى وعيٍ ينظر إلى انبنائها واشتغالها في تركيبه فلا يَبْتَدِهُ منها ما ليس مَحَلاًّ للابتداه. لذلك فإنّ ازْوِرَار التّفكير عن هذه الطّبيعة البنيويّة في ثنائيّة الأنا/الآخر وعزْل الحدّيْن - أو إخراجهما - من نسيج تلك العلاقة الجدليّة التي تشُدّ الواحد منهما إلى الآخر، لن يفتح أيّ مكانٍ جِدّي لمعرفتها على الحقيقة، بل لن يسمح بأكثر من إدراكٍ مُبسَّط أو تبسيطيّ لها. ولا يخامرنا شكّ في أنّ الغالب عليها في ثقافات اليوم - ومنها الثّقافة العربيّة المعاصرة - هو هذا الإدراك السّطحيّ المُبَسط.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/525ssc53

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"