عادي

قنديل المعرفة

23:52 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

القراءة ليست قيمة ثقافية واجتماعية وتربوية طارئة أو جديدة على الإمارات وعلى أهل البلاد؛ بل هي قديمة قدم التاريخ الثقافي للإمارات، وقدم التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والتجاري، لا بل قد لا أجازف بالقول إن أقدم أو من قدامى القراء في الإمارات البحار والشاعر والخرائطي أحمد بن ماجد. فلا يمكن لرجل علاّمة في الملاحة وفي الجغرافية وفي البحار إلا أن يكون قارئاً، وقارئاً نهماً أيضاً، شأنه شأن أهل العلم والمعرفة والدين والفقه والتاريخ والجغرافية والفلسفة.. لا بد لهم من برنامج قراءة؛ بل وبرنامج قراءة منظم أيضاً.

كانت البلاد بلاد رجال علم ودين ودنيا، وأقصد بأهل الدنيا التجار والبحارة على سبيل المثال، فما من تاجر ناجح إلا وله نصيب من التعليم والقراءة والثقافة، ولو في حدود دنيا، لكن هذه الحدود الدنيا هي بالضبط الشرارة الصغيرة التي تضيء قنديل المعرفة إذا أردنا أن نتحدّث بلغة شعرية في هذا السياق، وهو في الأرجح سياق شعري إذا تحدثنا عن جماعة الحيرة في الشارقة مثلاً والمصادر التاريخية والثقافية عادة تشير إلى ثلاثة شعراء أساسيين أو مؤسسين لهذه الجماعة الأدبية المثقفة القارئة: علي بن محين الشامسي(1750 1844)، وسالم بن علي العويس (1887 1959)، وخلفان بن مصبح الشويهي (1923 1946)، بحسب الباحث عبدالله سيف الشويهي في بحثه التوثيقي والتاريخي المتعوب عليه «الحيرة.. ودورها الفكري والثقافي في الشارقة»، ولا أحسب أن شاعراً ما، مهما كانت بيئته ومهما كان محيطه الاجتماعي والثقافي لا يقرأ. هؤلاء جماعة الحيرة الأدبية كانوا بالضرورة قراء ومن أوائل القراء في الإمارات.

مخاض

يقول الشويهي: «كان وجود حاضرة الحيرة يشكّل بؤرة ثقافية وفكرية نشطة، وكان أبناؤها المثقفون، ومن خلال ثقافتهم، عملوا على بناء هويتهم المحلية، واتخذوا من الثقافة درعاً تحمي المنطقة من جميع جوانبها الاجتماعية، وكان مخاض الحياة الثقافية والفكرية تعبيراً صريحاً عن تراكم إرث ثقافي لحضارة عريقة وأصيلة أنتجها المجتمع، من خلال ما رسّخه الآباء والأجداد من معتقدات وقيم وسلوكيات ظلت تتوارثها الأجيال».

ويعطي الباحث قائمة ثقافية مشرفة من التجار والمصلحين والمؤرخين والأدباء والشعراء في الحيرة، كانوا بالضرورة، بحكم أعمالهم واهتماماتهم الأدبية والثقافية قراء مرحلة، وقراء فترة ريادية تأسيسية، ليقف علمياً وتاريخياً على رموز القراءة والثقافة في الشارقة في النصف الأول من القرن العشرين.

إن قراءات تلك المرحلة الأولى من الثقافة الإماراتية سواء عند المؤسسين جماعة الحيرة، أو عند غيرهم من فئات مجتمع البلاد آنذاك، تؤكد أنها كانت قراءات في الدين والتاريخ، والفقه والأدب، وبخاصة الشعر العربي في مراحله التأسيسية التقليدية: الجاهلية وصدر الإسلام، ومرحلة الأمويين والعباسيين، غير أن قراءة القرآن الكريم بشكل خاص، كانت محاطة دائماً بما يشبه الاحتفالية الاجتماعية الفطرية الجميلة، والتي تؤشر إلى مدى فرح الناس آنذاك بختم القرآن؛ أي قراءته كاملاً، ولم تكن تلك المناسبة لتمر من دون حفاوة واحتفال.

في «سرد الذات» يتحدث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، قائلاً: «كان من يختم القرآن يتخرج في المدرسة، بعد أن يقوم المطوع أو المطوعة بإقامة التحميدة، فإن كان ولداً ألبس الملابس النظيفة، وأحياناً، ملابس جديدة، أما أبناء الشيوخ والأغنياء فيلبسون الخنجر الذهبي والغترة والعقال، ويخرج الواحد منهم مع أترابه، يقودهم المطوع، أو مَنْ ينوب عنه، يردد الدعاء، والفتيان من خلفه يؤمِّنون بصوت واحد قوي أشبه بالصريخ: آمين.

ومن باب بيت إلى آخر يجمع المطوع، أو من ينوب عنه، العطايا. أما بنات الشيوخ والأغنياء، فكنّ يلبسن الذهب على رؤوسهن وعلى صدورهن، وتخضب أياديهن بالحناء». ويا له من احتفال مبهج تقديراً وتكريماً للقراءة، ومعناها، وبعدها النفسي والأخلاقي.

غير أن لصاحب السمو، حاكم الشارقة، شأناً آخر مع خنجره الذهبي وسموه في الثانية عشرة من عمره، فقد رهن خنجره ليشتري به كتباً، ففي افتتاح الدورة الثالثة والثلاثين من معرض الشارقة الدولي للكتاب الخامس من نوفمبر 2014 ألقى سموه كلمة حوارية يحاور فيها قلبه.

يقول سموه: «قلت مهلاً يا قلب.. استكن لا تدفعني إلى ألعن الظلام؛ بل ادفع بي لأوقد شمعة تنير لنا الطريق في هذا العالم المظلم. قال: عرفت شمعتك.. قد كنت أعرفها منذ كنت أنت صغيراً، في شأن الكتب أخذتَ خنجرك الذهبي وأنت لم تبلغ الثانية عشرة من عمرك، فرهنته لتشتري به كتباً، أَلَم يحدث؟ قلت له: حدث.. وإخوتي كلهم، كل واحد لديه خنجر مُذَهبْ، فأين خناجرهم؟.. قيمة خنجري لا تزال في صدري علماً ومعرفة».

أجل قيمة خنجر سموه لا تزال في صدره: القراءة ثم القراءة، ثم القراءة، الأغلى من الخنجر، والأغلى من الذهب، والتي كرس ثقافتها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بمشروعه الثقافي، ومن أساسات هذا المشروع معرض الشارقة الدولي للكتاب، ومن أساسات هذا المعرض: القراءة.

مرة ثانية، القراء القدامى في الإمارات: تجار وأدباء ومطاوعة وتلاميذهم، أما ما يلفت نظر الباحث في تاريخ الثقافة والتعليم والقراءة في الإمارات، فهو أن النساء كان البعض منهن «مطوعات»؛ أي بكلمة ثانية، قارئات.

كانت المرأة في الإمارات ولا تزال، قارئة أدب ومنتجة أدب. ومرة ثانية يحضر القول التقليدي ومفاده أنه ما من كتابة مقنعة.. لافتة ورائعة إلا ووراءها قراءة مقنعة لافتة رائعة..

وراء الكاتب دائماً ثمة قارئ، لا بل يخيّل إليّ أن الكاتب الجيد وراءه وأمامه وعن يمينه وعن شماله قراء وليس قارئاً واحداً؛ ذلك أن ذات الكاتب القارئة تنقسم إلى أكثر من ذات. يصبح الكاتب المؤلف مجموعة ذوات قارئة. وهو هنا أيضاً لا يقرأ كي ينام، ولا يقرأ كي «يقطع» الوقت، كما أنه لا يقرأ لكي يتسلى؛ بل إن ذات المؤلف القارئة تقرأ لكي تتأسس. الكاتب يقرأ لكي يبقى حياً في الكتابة، وليس بعيداً أيضاً أن الكاتب يقرأ لكي يبقى على قيد الحياة.

إن القراءة هزة نفسية بالدرجة الأولى، ولكنها ليست مدمرة. إن القراءة حريق وزلزال كما وصفها إميل سيوران في إحدى مذكراته في «مثالب الولادة».

يروي سيوران أن والده وهو راهب وكهنوتي اعتاد أن يقرأ على أمه بعض الكتب، ويقول سيوران إن والده على الرغم من أنه كان راهباً فإنه كان يقرأ كل شيء، وهو أيضاً كان يعتقد أن ولده سيوران سيكون نائماً في كل مرة يقرأ فيها هذا الأب غير أن الولد لم يكن نائماً. يقول إنه ذات ليلة أصاخ السمع وإذ بوالده الراهب يقرأ من سيرة لراسبوتين (الفلاح الروسي 1869 1916) الذي نسبت إليه العديد من الكرامات، وعدّه البعض قديساً والبعض عدّه دجالاً». كان الأب الراهب يقرأ من سيرة راسبوتين ذلك المشهد الذي يحتضر فيه الأب فيدعو ابنه ليقول له: «اذهب إلى سان بطربسبورغ، استحوذ على المدينة، لا تتورع عن شيء، ولا تخش أحداً».

يقول سيوران حين سمعت هذه القراءة من فم والدي الذي لم يكن يقبل أي مزاح في الكهنوت أثار في ذلك ما يثيره الحريق أو الزلزال..

القراءة أيضاً بصيرة. هنا دع خواطرك تأخذك إلى بورخيس على سبيل المثال لا الحصر. بورخيس الأعمى الذي رأى الشرق، وعرف الثقافة العربية والإسلامية مثلاً، لا بالرحلات والسياحة الثقافية والسفر؛ بل بالكتب والقراءة.

ما من رؤية نقدية موضوعية أيضاً، بناءة وإيجابية وإنسانية الطابع، إلا وتصدر عن قارئ إنساني. إن القراءة على هذا النحو هي حماية أولية من التعصب والعنصرية، والعنف والكراهية.. وإلى آخر القائمة السوداء التي لا تصدر إلا عن الجهل والأمية والتخلف.

أسس

بيت الحكمة في الشارقة، ومكتبة الشارقة العامة، ومهرجان الشارقة القرائي وتحدي القراءة العربي، ومبادرتا: ثقافة بلا حدود، ومكتبة في كل بيت، ومشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، ومكتبة محمد بن راشد، وشهر القراءة في الإمارات (آذار/مارس كل عام)، وعشرية القراءة من 2016 حتى 2026، ومعرض الشارقة الدولي للكتاب، ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، وفعاليات الفنون البصرية والتشكيلية والدرامية والمسرحية في الإمارات.. كل ذلك أو كل هذه الشبكة الثقافية المتداخلة في الدولة، هي في الواقع شبكة قراءة تنسجم في الرؤية والهدف والمعنى، مع فكر الدولة الإماراتية القائم على ثقافة التسامح والتعايش، وتلاقي الثقافات والأفكار والحضارات واللغات والآداب والفنون.

ليس من فراغ أن مبادرة عشرية لمصلحة القراءة تطلقها الإمارات محلياً وعربياً وعالمياً، بإدارة وتنظيم وتمويل، وإعلام وفكر ومتابعة.. إلا لأن الدولة ترى أن الرهان الوحيد على الفوز العالمي بالمستقبل والتنمية والازدهار والتفاؤل، لا يتحقق إلا بالثقافة وجوهرها: القراءة.

هذا ما يجري الآن في الإمارات: الانتصار للأمل والحياة بالقراءة.. الانتصار للإنسان بالقراءة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/46hvk2c3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"