محنة النقد

01:09 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

متى كانت آخر مرة قرأت فيها نصاً نقدياً؟ لعل هذا السؤال يوجهه أي قارئ إلى نفسه عندما يتذكر كلمة «نقد»، والتي ربما أصبحت الآن من التاريخ، والقارئ هنا ليس المهتم بالأدب وحسب، فالنقد كان حقلاً واسعاً يمتد من السياسة ولا ينتهي بالأدب مروراً بمختلف مفاصل الحياة، ومن هنا أهميته، وضرورة التنبيه إلى أن اختفاءه أو سكوته أو تنحيته أو حتى موته، كما أعلن البعض، يؤدي إلى الكثير من السلبيات التي تطال قدرة العقل نفسه على وعي العالم وإدراكه.

لقد مر النقد في ثقافتنا بالكثير من المحطات، لكن هناك ملاحظة لا بد من التذكير بها، وتتمثل في أن مصطلح «النقد»، وفي عز ازدهاره، كان ملتبساً في بعض الأحيان ومكروهاً في أحيان أخرى، ومتهماً مرة، وغامضاً في مرة أخرى، أي أن جانباً كبيراً من ثقافتنا لم يكن يرحب بالنقد، وهناك من اتهم الناقد بأنه مبدع أو مفكر فاشل، لا همّ له إلا نقض أعمال الآخرين. و هناك من اتهم النقد بأنه ليس أكثر من انطباعات تخلو من الأدوات والمناهج، ومن وصفه مرة بأنه أكاديمي مقعّر لا يهم الناس في شيء، ومن روجوا للقول إن نظريات النقد غربية، لم تنبع من المجتمعات الأخرى ولا تعبر عن ظروفها.

كان النقد يتعرض للهجوم من الجميع وبطرائق وأساليب شتى، وأمام هذا الهجوم كان على المشتغل به أن يناور. فتوقف النقاد لفترة عن الأحكام التقويمية للأفكار والنصوص والمواقف وغاصوا في التحليلات النظرية، أو اتجهوا للكتابة بالرمز والإشارة، ولم تمر فترة من الزمن حتى أعلن البعض عن موت الناقد، وتولت التكنولوجيا الحديثة مهمة الصعود بالقارئ ليحل مكان الناقد، فأصبح للجميع رأيهم في كل شيء.

ولكن هل استطاع هؤلاء القراء أو «النقاد الجدد»، أن يقوموا بوظيفة الناقد؟ الواقع أن ما يقدمونه لا يتعدى أن يكون مجرد رأي في النص أو الفكرة أو الموقف، وهو رأي منزوع «الدسم»، إن جاز التعبير، فالناقد الكلاسيكي كان يصدر عن رؤية وأيديولوجيا، لم يكن هناك من ناقد يخلو من تكوين نظري سياسي ومعرفي من العيار الثقيل؛ بل إن بعض النقاد صنعوا اتجاهات خاصة بهم و أناروا العقول بتوجيهها للتعرف إلى مناطق جديدة في النصوص؛ بل تحول النقد في فترة ما إلى مؤسسة تبحث في الأدب والتراث والاقتصاد وتركيبة المجتمع وحوار الحضارات، والتاريخ ومسألة الآخر والاستشراق، وهذه الحقول تراجع البحث فيها مع تدهور دور الناقد.

لا بد للكتابة من قبس من نقد، ومن دونه تصبح باردة لا مذاق لها ولا تأثير، ولا بد لكل إنسان من حاسة نقدية تحصنه ضد من يحاول التلاعب به أو غزو عقله أو الانحدار بذائقته أو التأثير بالسلب في وعيه، ولا بد لكل ثقافة من مؤسسة نقدية تكون البوصلة التي توجه الدفة نحو كل ما من شأنه أن يثمر في مختلف مفاصل هذه الثقافة. عندما يختفي النقد يغيب الرأي، ولحظتها يدخل العقل نفسه في أزمة طاحنة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/cjw3nz3p

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"