عادي
قرأت لك

في الشعر.. كلنا إخوة

16:32 مساء
قراءة 4 دقائق
د. شهاب غانم

الشارقة: يوسف أبولوز

أقرأ لك هذه المرة «قصائد من الشرق والغرب» اختارها وترجمها الشاعر والناقد والمترجم الإماراتي د. شهاب غانم، ولعلّ أفضل من يترجم الشعر هم الشعراء؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون، وشعاب الشعر كثيرة، ولعلّ من بينها قضية الترجمة نفسها، فمرة يقال إن الترجمة خيانة، ومرة يقال إنها كالزواج شرّ لا بد منه، أما د. غانم فهو في هذه المجموعة من القصائد قد ضرب عصفورين بحجر واحد إن لم يكن ثلاثة عصافير:.. أولاً فهو لكي يقارب حساسية الكلام دائماً في قضية الترجمة قال إنه استحدث وصفاً للقصائد التي تصلح للترجمة من دون أن تفقد الكثير من رونقها ومعناها، فأطلق، كما يقول عليها وصف «القصائد العابرة للغات»، وقد اعتبر د. غانم أن ما سمّاها القصائد البليغة أو الغنية بالموسيقى قد تخسر الكثير عند ترجمتها، بينما القصائد التي تعتمد الصورة وبساطة اللغة تكون خسارتها أقل عند الترجمة.

هذا هو العصفور الأول الذي ضربه الدكتور، فهو في قضية ترجمة الشعر، يعترف، أن ثمة قصائد تخسر كثيراً، وثمة قصائد تخسر قليلاً عند ترجمتها، وبمعنى آخر إن في ترجمة الشعر إشكالية قائمة سواء أكان المترجم خائناً أم كان أميناً. أما العصفور الثاني الذي ضربه الدكتور في رأيي فهو العنوان الموفق لهذا الكتاب: «قصائد من الشرق والغرب»، وأحسب ويحسب غيري أن لا فنّ غير الشعر في العالم وفي التاريخ كلّه يمكن أن يجمع الشرق بالغرب. الشعر وحده ينسف تماماً مقولة الشاعر الإنجليزي «روديار كبلنغ»: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا..»، وقد لا يلتقي الشرق بالغرب وحتى الشمال بالجنوب على قضايا تتصل بالاقتصاد مثلاً.. التجارة والمال والشركات الكبرى والمصالح الدولية الأنانية، لكن عند حدّ الشعر، فالأمر يختلف تماماً. إن الشعر هو نقطة التقاء الطرق الوحيدة بين الأمم والشعوب، وحتى الحضارات سواء أكانت حضارات شرقية أم غربية.. شمالية أم جنوبية.

*اختيار

أما العصفور الثالث فهو يمثل القصائد ذاتها والشعراء ذاتهم الذين وقع عليهم اختيارات د. غانم الخبير في أوزان الشعر العربية وغير العربية بحكم لغته الإنجليزية الغزيرة، وأخذنا د. غانم إلى شعراء من أصول عربية أو إسلامية، ولكنهم يكتبون بالإنجليزية مثل المغني البريطاني سامي يوسف «من أصول أذربيجانية»، وقد اختار له المترجم هذا النص:

أتيتني ساعة نحس. ناديتك

فكنت الآسي من دونك

ما معنى عمري

لا أدري غيباً

ولا الكون أدري

من أجلك سوف أضحّي

من أجلك أعطي روحي.. وحياتي

لأكون معك..

أشعر أحياناً بضياع، من ظلمٍ قاسٍ وخداع

والآن جميع مرادي.. أن أكون معك..».

غير أن هذه القصيدة بالذات تأخذنا إلى المربع الأول مرة ثانية الذي انطلقنا منه.. وهو قضية الترجمة، والجميل في هذا الكتاب أنه يثير قضايا ثقافية، أراها، أهم من ترجمة الشعر في حدّ ذاته، فالنصوص المنقولة إلى العربية في حدّ ذاتها ليست مشكلة. أي إنسان يمكن أن يترجم، ولكن كيف؟ ولماذا؟.

في قصيدة سامي يوسف يقع د. غانم في إشكالية قائمة دائماً في ترجمة الشعر، وهي هل نترجم الشعر موزوناً، أم نترجمه بلا وزن؟.. هل من المفروض علينا أن يكون النص المترجم موزوناً؟.. الدكتور شهاب غانم نفسه يقول إن بعض الشعر أو الشعر عموماً إذا تُرجم موزوناً فقد يكون أحياناً «ثقيل الظل».

لذلك رأيت شيئاً من ثقل الظل في قصيدة المغني الأذربيجاني البريطاني سامي يوسف؛ وذلك لأن المترجم أراد أن يترجم القصيدة موزونة، ولكنه لم يستطع أن يترجم القصيدة على الوزن الذي يريده بحيث يكون الوزن صافياً ومكتملاً، فجاءت القصيدة لا هي موزونة، أو أنها شبه موزونة، بينما جاءت ترجمات د. غانم غير الموزونة جميلة ومكتملة. إنه في الكثير من القصائد بل أغلبها ليس في حاجة إلى الوزن. كأننا هنا نستعيد العبارة المغرورة لأبي العتاهية الذي يُنقل عنه أنه القائل: «أنا أكبر من العروض»، وهنا روايتان وراء مقولة أبي العتاهية هذه، فهناك من يقول أنه سُئل:.. هل تعرف العروض يا أبا العتاهية، فقال قولته تلك، وهناك من يقول إن أحد الشعراء أقل شأناً منه أشار إلى كسر في إحدى قصائده، وحين نبّهه ذلك الشاعر إلى كسره العروضي.. قال: «أنا أكبر من العروض».

*صلة وصل

في كل الأحوال نحن نقرأ كتاباً جميلاً حقاً. يثير قضايا تعكس الثقافة الشعرية العميقة فعلاً للشاعر د. شهاب غانم. نقرأ شعراً فيه روح الشرق، وفي الوقت نفسه فيه مادية الغرب. شعر لمسلمين وهندوس ومسيحيين. شعراء من أمريكا ومن الصين وبريطانيا والهند، بصرف النظر تماماً عن معتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم وألوانهم. فقط الشعر هو الواصل اللغوي، الجمالي، الأدبي، الثقافي بين الشرق والغرب.

إن الشعر هو اللغة. الشعر هو الاستقلالية العظمى التي نجدها في اللغة. اللغة التي نكتب بها. التي نتكلم بها. لا فرق المهم أن يكون الإنسان حرّاً من داخله، حينها، يصبح حرّاً بالمطلق. في الشعر. في اللغة، ولعلّ الشاعرة الهندية كمالا داس التي نقلها د. غانم إلى العربية في هذا الكتاب خير من جسّدت ثنائية الإنسان واللغة بعيداً عن كل انتماءات ضيّقة - أو انتهازية.. تقول كمالا داس: «إنني هندية شديدة السمرة مولودة في ملبار/. أتحدث ثلاث لغات/ واكتب باثنتين وأحلم بواحدة/ قالوا لي لا تكتبي بالإنجليزية/ فالإنجليزية ليست لغة الأم لماذا لا تتركوني وشأني أيها النقاد والأصدقاء والزوّار والأقارب.. كلكم جميعاً/ لماذا لا تدعوني أتكلم بأية لغة أريد/ اللغة التي أستخدمها تصبح لغتي.. بكل تشوّهاتها وغرباتها/ كلّها ملكي وحد».

كتاب يقرأ - في كل الأوقات، وفي كل الفصول. في آذار ومارس وإبريل. في الشرق والغرب.. أيضاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4fnaze9h

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"