ثقافة الفضاء

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

حكاية الإنسان الإماراتي مع الفضاء أقرب إلى الخيال، هذا الإنسان البسيط الحكيم، الذي كان يجلس إلى جانب خيمته في الصحراء، متأملاً بصنوف الدهر، ويكتب شعراً في المدى الواسع والليل والأقمار والنجوم، التي كانت تشكّل المستحيل، أو يجلس لصق بيته المبني من سعف النخيل أو الطين، يتأمل إيقاع يومه ويهدهد تعبه جراء عمل طول النهار تحت شمس حارقة، هذا الإنسان الذي كان قبل خمسين عاماً فقط، يفكّر في الفضاء كحلم، أصبح رائد فضاء، بكل ما تعنيه الكلمة من علم دقيق ومعقّد، يجلس في محطة فضاء دولية، تحيطه أجهزة الاتصال الأكثر تطوراً في العالم، يجري اختبارات وبحوثاً ذات صلة بصحة الإنسان ومستقبله على الأرض.

هذه النقلة القريبة من المعجزة، لو قرأها أحد في كتاب، أنها تحققت خلال خمسة عقود فقط، خلال ثلاثة أجيال فقط، فإنه سيحتاج إلى وقت طويل من الزمن، كي يتعايش مع الدهشة، وينتقل إلى مرحلة الواقع، ليصدّقه، ويصبح جزءاً منه. هو أشبه بالخيال العلمي، أن يتجسد التأمل في الحقيقة، وأن يتحول الحلم إلى واقع، لكن الطموح المدفوع بالإرادة، والرؤية المصحوبة بالتصميم، كلها قادرة على جعل الإنسان يمسك النجوم بيديه، ويرتّبها كما يشاء.

قد تكون صورة شعرية، لكن بعض الشعر يتحول إلى حقيقة، وهذا كان حلم المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، حلم اقتحام الفضاء كخطة، وإذا بالخطة تتحول إلى حلم متحقق، ليس على أرض الواقع فقط، ولكن في الفضاء الشاسع.

من هزاع المنصوري إلى سلطان النيادي، من 200 ساعات في الفضاء إلى 4000 ساعة في الفضاء، من 16 إلى 19 تجربة علمية. من 2019 إلى 2023، خلال ثلاث سنوات، اقتحمت الإمارات الفضاء مرتين، بفضل دعم القيادة الرشيدة، وإيمانها بدورها الإنساني، ودور الإمارات في المجتمع الدولي.

لم تعد الإمارات صاحبة المؤشرات الأولى عالمياً وإقليمياً في القضايا التنموية فحسب، لم تعد الإمارات الأولى عالمياً في مجال العطاء وإغاثة المنكوبين والمحتاجين فحسب، لم تعد الإمارات الأولى في دعم الشرعية للأشقاء فحسب، لم تعد الأولى إقليمياً وشرق أوسطياً في تمكين المرأة فحسب، بل أصبحت الأولى عربياً في ارتياد الفضاء، وإجراء البحوث المتقدمة، ذات الصلة بصحة الإنسان، والمناخ، ومستقبل الكرة الأرضية. نحن لا نبالغ، الأرقام والشواهد هي التي تتحدث.

قد لا نعلم الكثير عن تفاصيل البحوث التي سيجريها سلطان النيادي حول نظام القلب والأوعية الدموية، وآلام الظهر، واختبار وتجربة التقنيات، وعلم «ما فوق الجينات»، وجهاز المناعة، وعلوم السوائل، والنبات، والمواد، إضافة إلى دراسة النوم، والإشعاعات، هي مجالات علمية دقيقة، لها اختصاصيوها وأربابها، لكن يكفي أن نعلم أن هاجس الإمارات يتجاوز حدودها الجغرافية نحو العالمية، وأي نتيجة لأي اختبار، ستكون فتحاً علمياً للإنسانية جمعاء. هكذا تسطّر الشعوب أسماءها في سجلات الفتوحات والإنجازات العلمية.

نحن الآن، وأعني في الإمارات، أمام واقع جديد، وحقبة جديدة من التنمية البشرية، ونوع جديد من الثقافة البشرية، وفي الواقع، فإننا دخلنا هذه الحقبة منذ سنوات، لكن التراكم المعرفي، والإنجاز النوعي، يتطلبان صياغة استراتيجية ثقافة جيدة، هي «ثقافة الفضاء»، نحن لا نطالب بأن يتحول الناس جميعاً إلى علماء ورواد فضاء، ولكن من المهم جداً نشر ثقافة الفضاء لتصبح جزءاً من ثقافتنا، بحيث يعلم الناس كيفية تحقيق الإمارات هذا الإنجاز الفضائي، وماذا يعني ذهاب شابين إماراتيين في رحلة فضائية، ماذا يعني مكوث إنسان في مركبة فضائية لمدة ستة شهور، وماذا نريد من كل هذا الجهد الذي لا يُقدّر بثمن؟ لقد دخلت الإمارات عصر الفضاء، وهذا يتطلب ثقافة في هذا الجانب، لأن المستقبل سيكون لهذه العلوم وما سيترتب عليها من نتائج مخبرية وفتوحات علمية.

ندعو الله أن يعيد سلطان النيادي إلى بلده وعائلته آمناً وسالماً.

[email protected]

 

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8vue66

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"