رأسمالية في جدول أعمال غير رأسمالي

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

نجحت إقلاعةُ البناء الاقتصاديّ الصّينيّ حين انتقلت قيادة الصّين وقيادة حزبها الشّيوعي من التّشديد على أولويّة علاقات الإنتاج إلى إطلاق قوى الإنتاج من العِقال الذي كبّلها. لم يلح ماوتسي تونغ على أولويّة علاقات الإنتاج على القوى المنتجة إلاّ لأنّ ذلك عنده من مقتضيات الاشتراكيّة ومن مفرداتها الأساس التي ظلّ يردّدها في نصوصه الفكريّة قبل أن تَدُلَّه على وجاهتها أخطاءُ التّجربة السّتالينيّة السّوفييتية في البناء «الاشتراكيّ». ولكنّ صين دينغ سياو بينغ لم تكن تخوض تجربة بناء اشتراكيّ، على النّمط الماويّ، حتى تظلّ علاقات الإنتاج في قلب أولويّاتها، بل كانت تسعى إلى بناء رأسماليّةٍ قويّة في الصّين - مستأنفةً بذلك ما كان قد دشّنه لينين في روسيا البلشفيّة («السّياسة الاقتصاديّة الجديدة»)-؛ وهذه ما كان يمكن لها أن تُبْصر النّور إلاّ بتغيير المعادلة وتطوير قوى الإنتاج إلى الحدّ الأبعد، على منوال ما حصل في الأربعين عاماً الأخيرة.

على أنّ التّوجّه الجديد للصّين، الذي بدأه دينغ سياو بينغ في النّصف الثّاني من سبعينات القرن الماضي، لم يأت انقلاباً على عهد ماوتسي تونغ وتراثه، من النّخبة الجديدة التي وصلت إلى قيادة الحزب الشّيوعيّ والسّلطة في الصّين، ولكن استجابةً لحاجاتٍ موضوعيّة ضاغطة. صحيحٌ أنّ دينغ سياو بينغ كان من ضحايا الثّورة الثّقافيّة (1966)؛ حيث أُبْعِد عن السّلطة والحزب لسنوات سبع؛ وصحيح أنّه بعد أن عاد إليهما وأعيد إليه الاعتبار من ماوتسي تونغ (1973) - بتعيينه نائباً لرئيس مجلس الدّولة - سرعان ما تعرَّض ثانيةً للعزل بعد وفاة ماوتسي تونغ من قِبَل مَن عُرِفوا باسم «عصابة الأربعة»، ولم يُعَد إليه الاعتبار إلاّ عقب سقوط نفوذ هؤلاء في الحزب والسّلطة في العام 1977، لكنّ هذه السّوابق من الإساءات التي لحقت به لم تَحْمله على إتيان أيّ فعْلٍ من أفعال الانتقام ممّن أساؤوا إليه أو من ذكراهم؛ وآيُ ذلك أنّه ظلّ يحفظ لصانع الصّين الحديثة مَقامَه واعتباره في الدّولة أسوةً بمقامه في الحزب والمجتمع والذّاكرة الشّعبيّة.

قلنا إنّ مردّ التّوجّه هذا إلى حاجاتٍ موضوعيّة فرضت نفسها على الصّين، مجتمعاً ودولة، وأوّلها حاجتُها إلى تنميةٍ شاملة تستكمل بها مكتسباتِها المتحقّقة منذ ثورة أكتوبر 1949، وتتحوّل بها إلى قوّةٍ صناعيّة كبرى قادرة على منافسة بلدان الغرب. والحقّ أنّ ما حدا بالقيادة الصّينيّة إلى سلوك المسلكِ هذا وخوض غمار بناء اقتصاديّ على قاعدةٍ رأسماليّة، هو عينُه ما حدا بلينين والبلاشفة إلى هندسة الخيار نفسِه للخروج بالاتّحاد السّوفييتي من حال التّأخّر مقارنةً ببلدان الغرب الأوروبيّ. وكما أنّ رأسماليّة روسيا السّوفييتية أُديرت فصولها من سلطةٍ يحكمها حزبٌ شيوعيّ، كذلك أدار «الحزب الشّيوعيّ الصّينيّ» عمليّة بناء تطوُّرٍ رأسماليّ، فكأنّما الضّمانة الوحيدة لعدم انقلاب الرّأسماليّة على حقوق الشّعب وكادِحيه، في الحاليْن، كانت هي إشراف النّخبة الشّيوعيّة على مجرى بنائها، حتّى بصرف النّظر عن الفارق الهائل بين ما حصده شيوعيّو الاتّحاد السّوفييتي وشيوعيّو الصّين من تجربتي البناء الاقتصاديّ الرّأسماليّ في البلديْن.

يتحدّث الصّينيّون عن رأسماليّة من نوعٍ مختلف عن ذلك الذي قام في بلدان الغرب الأوروبيّ والأمريكيّ وتعمَّم في العالم. إنّها ليست رأسماليّة استغلال الرّأسمال لقوّة العمل والاستحواذ على فائض القيمة؛ وليست رأسماليّة نخبٍ من الخواص تملك الثّروة ووسائل الإنتاج وتحتكرهما في مقابل طبقات محرومة من كلّ شيء؛ وليست رأسماليّة طبقة هدفها تحقيق الرّبح حصراً...، إنّها رأسماليّة تكافُل وتضامُن بين طبقات المجتمع كافّة هدفها تحقيق وفرة الإنتاج والقضاء على الفقر والتّهميش؛ رأسماليّة خاضعة لرقابة الدّولة الصّارمة لئلاّ تسمح بظهور مشكلات وأمراض اجتماعيّة من قبيل تلك التي ولَّدتْها في بلدان الغرب؛ ثمّ هي رأسماليّة شعب وأمّة لا رأسماليّة طبقة ارتبطت بها في التّاريخ هي البرجوازيّة. لذلك صار مألوفاً أن تُنْعَت في الصّين باسم الرّأسماليّة الشّعبيّة، وأن تُجَرَّد ممّا عَلِق بها من شائن الشّوائب فيُنْظَر إليها بوصفها رحيمة.

من النّافل القول إنّنا أمام روايةٍ صينيّة عن النّظام الرّأسماليّ لا تذهب إلى تلميع وجهه القبيح - كما يعتقد خصوم التّجربة الصينيّة - بل تسلِّم بمفاسد ذلك النّظام في الوقت عينِه الذي تَلْحَظ فيه إمكاناً لتصحيحه وجعله أكثر إنسانيّةً وأكثر اعتناءً بما هو اجتماعيّ وبمنظومة الحقوق في هذا الاجتماعيّ. لذلك تبدو رأسماليّة الصّين رأسماليّة داخل جدولِ أعمالٍ اشتراكيّ أو - على الأقلّ - غيرِ رأسماليّ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdhfj2ny

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"