على قدامى المستعمرين التواضع

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

خرج المستعمرون من مستعمراتهم السابقة، التي أصبحت دولاً مستقلة ذات سيادة، وعضوة في المنظمات الدولية والإقليمية، لا أحد يمثلها بالنيابة، أو ينطق باسمها، وليس بوسع المستعمر السابق، فرنسياً كان، أو بريطانياً، أو سواهما، أن يدعي أن هذا البلد أو ذاك، هو جزء من إمبراطورية كانت ذات يوم. الإمبراطوريات مهما تجبّرت قابلة للتحلل والتفكك. هذا هو درس التاريخ والحاضر.
 لكن المستعمرين خرجوا، ولم يخرجوا، في الآن ذاته. قد لا يحتاج هذا إلى شرح كبير، فأمام موجة التحرر الوطني والقومي التي اجتاحت بلدان ما كان يعرف ب«العالم الثالث»، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، اضطر المستعمرون للاعتراف بأن استقلال هذه البلدان أمر لا مفرّ منه، ولكنهم لم يكفوا، رغم ذلك، عن ممارسة سياسة الإملاءات عليها والتدخل في شؤونها الداخلية، وحتى الإبقاء على وجود عسكري مباشر لهم فيها، خاصة في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، بعد الحرب العالمية الثانية.
 انتهت الصورة التقليدية للحرب الباردة التي عرفناها في فترة ثنائية القطب الدولية، لكن الحرب نفسها لم تنته، وإنما انبعثت في صور جديدة قد تكون أكثر تعقيداً. قد لا يدور الصراع اليوم حول الأفكار، فلا الصين ولا روسيا تبشران اليوم بأفكار نقيضة كتلك التي كانت في الحرب الباردة. الصراع يدور اليوم حول ملفات النفوذ والأمن والاقتصاد، وفي الملف الأخير بالذات، أي الاقتصاد، فإن الصين باتت المنافس القوي الذي يُدوّخ رؤوس الغربيين الذين يصارعون لا للتمدد في نفوذهم، فهذا التمدد بات عصياً، وإنما للحفاظ على ما تبقى منه.
 في هذا الإطار بالذات، علينا قراءة الزيارات المكوكية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لبلدان القارة السمراء، التي كانت مستعمرات فرنسية، وإقراره من هناك «بأن فرنسا الإفريقية انتهت»، ومفردة التواضع في عنوان مقالنا هذا مستوحاة من تصريح أخير لماكرون دعا فيه الفرنسيين إلى «التواضع تجاه القارة الإفريقية»، وأعلن عن خطوات بتخفيض الوجود العسكري في عدد من دول القارة، خصوصاً في منطقة الساحل وجنوب الصحراء، وبلغة واقعية اعترف ماكرون بتراجع مكانة فرنسا على الصعد الاقتصادية والاستراتيجية.
يُصعّب من مهمة الفرنسيين، والغربيين عامة، في الإبقاء على ما كان لهم من نفوذ في مستعمراتهم السابقة، أن منافسيهم الصينيين والروس ينأون بأنفسهم عن سياسة الإملاءات على الدول الأخرى، ويعطون الأولوية للمنافع الاقتصادية المشتركة، وهو نهج لم يألفه الغربيون الذين اعتادوا تقييد حلفائهم بتلك الإملاءات.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdcwhxrr

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"