الطموحات العسكرية الألمانية

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

عاد الحديث مؤخراً في برلين ولدى الأوساط المهتمة بالشأن الأوروبي عن الصناعات العسكرية الألمانية وعن مشروع تحوّل الجيش الألماني إلى أكبر جيش في دول الاتحاد الأوروبي من خارج الناتو، وذلك بعد مرور سنة على إعلان حكومة المستشار أولاف شولتس عزم بلاده القيام بمجهود معتبر واستثنائي من أجل عصرنة مؤسستها العسكرية من خلال تخصيص مبلغ يقدر ب 100 مليار يورو لقطاع الدفاع الذي ظل لسنوات عدة يمثل نسبة جد متواضعة من الناتج الداخلي الخام لألمانيا التي كانت تفضل التركيز على الصناعات المدنية وتعتمد بشكل كبير على الحماية التي يوفرها لها حلف الناتو، وذلك نتيجة للأسباب والخلفيات التاريخية التي يعرفها الجميع.

بيد أنه وعلى الرغم من كثرة التصريحات المتعلقة بالرغبة في تطوير قدرات الجيش الألماني، فإن المراقبين لاحظوا أن هناك ضعفاً واضحا في الإرادة السياسية لدى النخبة السياسية الحاكمة في برلين من أجل الإسراع في تجسيد الطموحات العسكرية الألمانية.

وتشير المعارضة المحافظة في ألمانيا إلى أن خطة الحكومة لاستثمار 2 في المئة من الناتج الداخلي للبلاد في قطاع الدفاع، التي تم الإعلان عنها سابقاً، لم تخرج حتى الآن من خانة النوايا؛ إذ إنه وبعد مرور عدة أشهر على خطاب شولتس الذي صفقت له المعارضة المحافظة، فإن النتائج ما زالت جد متواضعة ولا تتماشى مع الإرادة المُعلن عنها بشأن تحويل الجيش الألماني إلى أكبر جيش في أوروبا من حيث العدة والعتاد؛ حيث إن مخازن الجيش من الذخيرة والعتاد متواضعة للغاية ولا تستطيع الاستجابة لمتطلبات الأمن القومي الألماني، وأوضح مثال على ذلك هو أن حكومة شولتس لم تستطع توفير 18 دبابة «ليوبارد 2» لأوكرانيا إلا بصعوبة بالغة، كما أنها لم تُفرج إلا عن عُشر المبلغ الذي وعدت به وما زالت خطواتها جد متثاقلة فيما يخص تجسيد الاستراتيجية الدفاعية الجديدة.

وعلى الرغم من هذه الانتقادات المعبّر عنها من طرف المحافظين، فإن قسماً معتبراً من الطبقة السياسية الألمانية باتت تعترف بأن هناك جهوداً جبارة قد تم بذلها من طرف الحكومة على جميع المستويات ذات الصلة بالشأن العسكري، فقد بدأت برلين في تغيير عقيدتها الدفاعية، وقررت في أقل من سنة أن تسلّم أسلحة ثقيلة لدولة توجد في حالة حرب، وهي تعمل بحذر من أجل إقناع غالبية الألمان بضرورة إجراء تعديلات جوهرية في العقيدة العسكرية للبلاد بشكل يُسهم في ضمان أمنها ولا يؤدي في اللحظة نفسها إلى إيقاظ المخاوف التاريخية للجوار الأوروبي من السياسة الدفاعية الجديدة لألمانيا. وعلاوة على ذلك فإن المؤسسات الصناعية العسكرية الألمانية بدأت تستعيد مكانتها الريادية داخل النسيج الصناعي للدولة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بعدما كان الجزء الكبير من المواطنين الألمان ينظر إليها بعين الريبة والتوجس.

ويمكن القول إن النخبة السياسية الألمانية تسعى إلى جعل المجمّع الصناعي العسكري للبلاد قادراً على مواكبة التحولات الداخلية والأوروبية والاستجابة للتحديات الجيوسياسية الدولية، بعد أن جرى تهميش هذا المجمع لعقود من الزمن، لم يكن قادراً فيها على مواكبة التطور الهائل الذي تحقق على مستوى الصناعات المدنية. ويرى بعض المراقبين في هذا السياق، أن الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني شولتس إلى واشنطن ومحادثاته المغلقة مع الرئيس الأمريكي لم تكن فقط مناسبة لتأكيد وحدة الحلفاء الغربيين في مواجهة التحديات القادمة من الشرق، لكنها كانت فرصة أيضاً لكي تحصل فيها ألمانيا على الضوء الأخضر من واشنطن من أجل الإسراع في تحوّل ألمانيا إلى قوة عسكرية قادرة على الإسهام في حماية الأمن الأوروبي بشكل أكثر فاعلية.

ومن الواضح أن أوروبا والدول الغربية المدافعة عمّا تصفه بالقيم الديمقراطية، أضحت مقتنعة إلى حد كبير بأهمية استعادة ألمانيا، التي تخلصت من نزعتها القومية المتشددة، لدورها الريادي في المجال الدفاعي بهدف المساهمة الفعّالة في الحفاظ على الأمن في أوروبا، من خلال السماح للمجمّع الصناعي العسكري الألماني بالقيام بدور محوري في تحقيق التوازن في معادلة الصراع بين الشرق والغرب، في مرحلة تعرف فيها القدرات الصناعية العسكرية للصين تطورات لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية مواجهتها بمفردها دون دعم من ماكينات الصناعة الألمانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yf2pwfbt

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"