عادي
تدور حول عبثية الإنسان

آرتور آداموف.. الخروج من الكابوس

23:00 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة – «الخليج»

خطا آرتور آداموف (1908 – 1970) خطوة واسعة نحو أرض الواقع، لم يعد يكتب مسرحيات تمثل فيها الشخصيات نوازعه واتجاهاته السيكولوجية فقط، بل لا بد لهذه الشخصيات أن تحقق وجودها الموضوعي، وأن تحيا لذاتها، والمسرحية المقصودة هنا هي «لعبة البنج بونج» (ترجمها إلى العربية فاروق عبد القادر) ووصفت بأنها «أعظم ما كتب آداموف» و«عمل عظيم ومتميز في مسرح العبث كله».

«لعبة البنج بونج» مثلها مثل مسرحية آداموف الأولى «الخدعة» تدور حول عبثية جهد الإنسان ولا جدواه، لكن الاختلاف بينهما أساسي ومهم، فعلى حين تؤكد الخدعة أنك مهما فعلت فالموت يترصدك في نهاية الطريق، وتقف عند هذه القضية المجردة فإن البنج بونج تحاول أن تقدم لها تعليلاً وتفسيراً، بعبارة أخرى إن هذه المسرحية تضيف إلى القضية الأساسية التي تطرحها أولى مسرحيات آداموف إجابات عن هذه الأسئلة: كيف يتبدد الجهد الإنساني ولماذا؟

في تلك المسرحية تلتحم عناصر الواقع والخيال بأنصبة متساوية، وإذا كان العالم الذي تدور فيه الأحداث معزولاً كل العزلة عن عالم الواقع فليس هذا لأن الكاتب ينقصه حس الواقع، لكن لأننا نراه من خلال اهتمامات الشخصيات التي تنحصر كلها داخل قطاع ضيق من الواقع، والشخصيات في المسرحية لها وجودها الفردي المتميز، إنها ليست شخصيات مدفوعة بقهر قوى نفسية لا قبل لها بمقاومتها أو السيطرة عليها، لكن لهم قدر من الحرية في تقرير مصائرهم.

أداموف ليس كاتبا مسرحيا فقط لكنه مفكر أيضا، ارتبط اسمه منذ البداية بمسرح العبث، وظل حتى بداية الستينات يمثل مع بيكيت ويونسكو الاتجاهات الأساسية في هذه الحركة الفكرية والفنية، لكنه تحول عن مسرح العبث ودعا إلى مسرح جديد أسماه الواقعية النقدية، يعتمد على الواقع، ويكشف عن ظروفه وتناقضاته.

أجواء كابوسية

وكما جاء بيكيت من أيرلندا ويونسكو من رومانيا، جاء آداموف من القوقاز، لكنه عرف باريس منذ حداثته، وتفتحت عيناه على الأدب الفرنسي، فكان بلزاك أول من عرف من الكتّاب، وفي ال 16 عرف حلقات السيرياليين في باريس، وتعرف إلى الشاعر العظيم بول إيلوار، وكتب قصائد لها طابع سيريالي، لكنه انصرف تدريجيا عن الكتابة، وقدم ترجمات لتشيكوف وجوجول وجوركي ودستويفسكي وبوخنر وسترندبرج.

فيما بعد كشف آداموف عن سر الأزمة الروحية والنفسية العميقة التي دفعته للتوقف عن الكتابة، حين نشر اعترافاته، وشكلت وثيقة نموذجية لدراسة حالة، كما يسميها أطباء النفس، شرح فيها آداموف مخاوفه وأوهامه ورؤاه، التي دفعته لأن يكتب مسرحيات تدور في أجواء كابوسية خانقة، كما صاغ الاعتبارات النظرية التي جعلته يضع نظرية جمالية في العبث، والأسس التي من أجلها تحول فيما بعد عن هذا المسرح.

تبدأ الصفحات الأولى من اعترافات آداموف بما يمكن اعتباره إرهاصا للأدب الوجودي ومسرح العبث معا، يقول: «إنني أعرف قبل كل شيء إنني موجود، لكن من أنا؟ أعرف أنني أتألم وإذا كنت أتألم فلأن في أعماقي انفصاما وانقساما، إنني منفصم، هذا صحيح لكن، ما هذا الذي انفصمت عنه؟ لا أستطيع أن أعرفه أو أسميه».

يقول إن في أعماقه إحساسا راسخا بالاغتراب، ويواصل شرح أعراض مرضه النفسي، وهو يعي حقيقة مرضه تماما، ويهتم بعلم النفس الحديث، فيترجم لكارل يونج واحداً من كتبه الرئيسية، بل هو يعرف أيضاً فائدة مرضه النفسي هذا، إنه يمنح ضحيته نوعاً من البصيرة الحادة المتألقة، ومعرفة بأعماق النفس لا توفران للإنسان السوي.

بعد أحداث مايو 1968 في فرنسا وعودة الجنرال ديجول إلى الحكم اتخذ خطوات واسعة نحو اليسار، حتى أصبح المتحدث بلسان كتاب المسرح السياسي الملتزمين في فرنسا، وبعد نهاية الحرب الثانية بدأ آداموف الكتابة للمسرح كان غارقا في قراءة الكاتب المسرحي أوجست سترندبرج.

ظل آداموف يقيم في باريس حتى مات في سنة 1970 كان كاتباً مفكراً له تاريخ طويل مع مسرح العبث، يقدم لنا مثالاً نادرا لكاتب اختار طرق خلاصه، خلال فحص شاق ومضن لذاته، وبعد أن كان مستسلماً لرؤاه وكوابيسه وأحلامه استطاع أن يقهرها، ويسيطر عليها، وتصبح من ثم مادة تعبيرية، من تلك التي يحتاجها الفنان دائما للتعبير عما هو داخل ذاته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrx5anpc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"